قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: أيها الناس، إنكم تقرءون الآية وتتأولونها خلاف تأويلها (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قوم عملوا المعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم ولم يفعل أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ". وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عُذّبَ أهلُ قرية فيها ثمانية عشر ألفاً أعمالهم كأعمال الأنبياء قالوا: يا رسول الله كيف ذلك؟ قال: لم يكونوا يغضبون لله - عز وجل - ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ". وقال الغزالي - رحمه الله -: كل من شاهد منكراً ولم تغيره ولم ينكره وسكت عنه فهو شريك فيه، فالمستمع شريك المغتاب، ويجري هذا في جميع المعاصي، حتى في مجالسة من يلبس الديباج، ويتختم بالذهب ويجلس على حرير، والجلوس في دار أو في حمام على حيطانها صور أو فيها أواني من ذهب أو فضة، والجلوس في مسجد يسيء الناس الصلاة فيه فلا يتمون الركوع والسجود، والجلوس في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة، أو في مجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيها الإيذاء والإفحاش بالسفه والشتم. وبالجملة من خالط الناس كثرت معاصيه وإن كان تقياً في نفسه إلا أن يترك المداهنة لا تأخذه في الله لومة لائم، ويشتغل بالحسنة والمنع من المنكر وإنما عنه يسقط الوجوب بأحد أمرين: أحدهما: أن يعلم أنه إن أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر، ونظر إليه بعين الاستهزاء وهو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء، ومن يزعم أنه من أهل الدين فههنا يجوز السكوت، ولكن يستحب الزجر باللسان إظهاراً لشعائر الدين مما لم يقدر على غير الزجر باللسان، ويجب أن يفارق ذلك الموضع، فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختبار فمن جلس في مجلس الشرب فهو فاسق، وإن لم يشرب، ومن جالس مغتاباً أو لابس حريراً أو آكل ربا أو حرام فهو فاسق فليقم من موضعه. الثاني: أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر بأن يرى زجاجة فيها خمر فيرميها فيكسرها، أو يسكب آلة الملاهي من يد صاحبها ويضربها على الأرض ولكن يعلم أنه يُضْرَب أو يصاب بمكروه فههنا يستحب الحِسْبَة لقوله تعالى:(وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك) .ولا يجب إلا أن المكروه الذي يصيبه له درجات كثيرة يطول النظر فيها ذكرها الغزالي في الإحياء في كتاب الأمر بالمعروف. وعلى الجملة فلا يسقط الوجوب إلا بمكروه في بدنه بالضرب، أو في ماله بالاستهلاك، أو في وجاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مرؤته. فأما خوف إفحاش المنكر عليه، وخوف تعرضه له باللسان، وعداوته له؛ أو يوهم سعيه في المستقبل بما يسوءه، ويحول بينه وبين زيادة خير ينتظرها؛ فكل ذلك موهومات وأمور ضعيفة لا يسقط الوجوب بها. واعلم أن عمدة الحسبة شيئان: أحدهما: اللطف والرفق والبداية بالوعظ على سبيل الدين لا على سبيل العنف والترفع والإدلال بدالة الصلاح فإن ذلك يؤكد داعية المعصية، ويحمل المعاصي على المناكرة وعلى الإيذاء، ثم إذا أذاه ولم يكن حسن الخلق غضب لنفسه، ويرد الإنكار لله - عز وجل - واشتغل بشفاء غليله منه فيصير عاصياً، بل ينبغي أن يكون كارهاً للحسبة يود لو ترك العاصي المعصية بقول غيره، فإذا أحب أن يكون هو المعترض كان ذلك لما في نفسه من حالة الاحتساب وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه ". ووعظ المأمون واعظ بعنف فقال: يا رجل؛ ارفق فقد بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره بالرفق فقال تعالى:(فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) . وروى أبو أمامة أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقروه ادن مني؛ فدنا منه فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: ل - جعلني الله فداك - قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ قال: لا. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، حتى ذكر له الأخت، والعمة، والخالة، ويقول وكذلك الناس لا يحبونه ثم وضع يده على صدره ثم قال: اللهم طهره واغفر ذنبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك