تجد الشاعر قد ذكر في خياله الكثير من الحقائق التي لو ذكرها كذا جافة من غير أن يعمد إلى الخيال في تشبيهاته، وأستفارته، وكتاباته، لما كان لقوله التأثير الذي تلقيه في أنفسنا عند سماع هذا الشعر الذي هو الشعور صيغَ في قالب خيالي ليعبر عن حقائق نفسية هي في نفسها جمال، ولكن جمالها في التي نقلت إليها هذه المعاني! ولنعد إلى الجعبري مرة اخرى، لنتبين صلة الخيال بالحقيقة في شعره ولنختار منها هذه المرة قوله:
مليح ناعس الطرف ... رشيق القد والعطف
غزال قد سبى عقلي ... بذاك الخصر والردف
وورد فوق خديه ... يشوقني إلى القطف
وآض عذاره المسكي ... كنقش الغيد في الكف
وطيب بطيب نكهته ... واسكر من شذ العرف
فما أبهاه من بدر ... بدا في غاية اللطف
بنار الهجر أحرقني ... وفي هجرانه حتفي
متى بوصاله أحظى ... ونيران الجفا تطفي
وقد أصبحت ذا سقم ... ولكن ريقه يشفي
أموت بحبه وداً ... وأحيا منه بالرشف
ومن وجدي به نمت ... دموعي بالذي اخفي
وقد باحت بأسراري ... فقلت لأدمعي كفي
وقلت لعاذل دعني ... فبعض اللوم لي يكفي
فمحبوبي له قدٌ ... رشيقٌ زايد الظرف
وإن لم أحظَ من حبي ... بوصل منه وا لهفي
أو أنظر إلى قوله:
زاد الغرام بمهجتي ... والوجد أسهر مقلتي
والقلب ذاب من القلا ... الدمع باح بقصتي
ولهيب نار جوانحي ... قد أشعلت من حرقتي
قد قل صبري بعدكم ... والبعد غيَّر حالتي
وغدوت بين خيامهم ... كالهائم المتلفت
ناديتهم سحراً وقد ... هاجت بلابل لوعتي
أحباب قلبي قد كفى ... ما قد جرى من عبرتي
كم ذا أعلل بالملتقى ... قلبي بقرب أحبتي
إن كان عز الملتقى ... يا مهجتي فتفتتي
يا ليتهم رفقوا فقد ... رق العذول لرقت
عساهم أن يسمحوا ... بعد البعاد بزورة
صلاح الدين الصفدي:
إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
لآخر:
سألتها عن فؤادي أين موضعه ... فإنه ضل عني مسراها
قالت لدينا قلوب جمة جمعت ... فأيها أنت تعني قلت أشقاها
لبعضهم:
وخالٌ قد تضمنه عذارٌ ... تروق العين إن نظرت إليه
كشحرور تخبي في سياج ... مخافة باشق يسطو عليه
إبن نباتة:
وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه
شفق العذار بخدّه ورآه قد ... تعست لواحظه فدبّ عليه
ولله در القائل:
يا محرقاً بالنار وجه محبه ... مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوار حي وأشفق على قلبي لأنك فيه
إبن نباته:
فديتك أيها الرامي بقوس ... ولحظ يا ضنى قلبي عليه
لقوسك نحو حاجبك إنجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه
الشيخ حسين الدجاني:
إذا لم يكن معنى حديثك لي يروي ... فلا مهجتي تشفي ولا كبدي يروي
نظرت ولم أنظر سواك أحبه ... ولولاك ما طاب الهوى الذي يهوى
ولما إجتلاك القلب في خلة المرضى ... وشاهد قال الناس ضلت به ألا هو
لعمرك ما ضلّ المحب ولا غوى ... ولكنهم لما عموا أخطأوا الفتوى
ولو شهدوا معنى جمالك مثلما ... شهدت بعين القلب ما أنكروا الدعوى
خلعت عذاري في هواك ومن يكن ... خليع عذار في الهوى سره نجوى
ومزّق أثواب القار تهتكاً ... عليك وطابت في محبتك البلوى