وأما الغايات من هذه الأَقاويل فهي ثلاث غايات لهذه الثلاثة الأَقاويل. أما القول المشير فغايته النافع والضار. فإِن الذي يشير، فإِنما يأْذن في النافع أو في الذي هو أنفع، ويمنع من الضار أو من الذي هو أضر. وأما القول المشاجري فغايته العدل والجور. وأما القول المثبت فغايته الفضيلة والرذيلة. وإن استعمل واحد من هذه غاية صاحبه، فليس على القصْد الأَول، بل من أجل الغاية الخاصة به. مثال ذلك إِن المشير قد يقنع إِن هذا عدل أو جور، ليشير بالإِذن فيما يكون عن العدل من المنفعة، وبالمنع عما يكون على طريق الجور لما في الجور من المضرة التي تتوقع. وكذلك قد تستعمل الفضيلة والرذيلة، أعني من جهة ما يلحقها من النافع والضار.
وإِذا كانت هذه الغايات الثلاث تخص كل منها واحداً من هذه الأَقاويل، أعني من جهة ما هي غايات على القصْد الأَول، فالحدود المميزة لكل واحد من هذه الأَقاويل الثلاثة إنما تكون الفصول المعطاة فيها من قبل هذه الغايات. وقد يدل على إِن هذه الغايات هي خاصة بواحد واحد من هذه الأَجناس الثلاثة من الأَقاويل أنه إذا أقنع كل واحد منها في غاية الجنس الآخر، ربما لم يكن للمناظر في ذلك معاسرة ومشاكسة، بل كثيراًء ما يسلم له ذلك، ولكن لا يسلم له غاية ذلك القول التي تخصه. مثال ذلك إِن المدعي إذا ادعى إِن فلانا أخذ المال من فلان، وذلك لا شك ضرر به، فربما يسلم له الخصم إِن ذلك كان، ولكن لا يسلم له إِن أخذه المال منه كان على جهة الجور. وكذلك المشير قد يسلم إِن الفعل الممكن جور، ولا يسلم أنه ضارٌ. ولمكان تداخل هذه الغايات يعرض للمشيرين كثيراً إِن يشيروا بأشياء ضارة على جهة المغالطة من قِبَل أنها عدل أو أنها ليست بجور، ولكن لا يقرون بأنها ضارة، بل ربما أحتالوا في دعوى وجود النفع فيها. مثال ذلك أنهم قد يشيرون بالصبر على الموت في الحرب، وألا يفروا، لكوْن الفرار جوراً في الشريعة. وكذلك متى قهر قوماً واستولوا عليهم، ربما أشار المشير عليهم ألا يمتعضوا لذلك القهر لأَنه لم يكن جوراً، وربما أوهم فيه أنه غير ضار لهم. وكذلك المادح قد يسلم إِن الشيءَ ضار، ولكن يدعى أنه فضيلة، مثل من يخلص إِنسانا من الموت ويعلم أنه يموت بتخليصه ذلك الإِنسان. فالموت يسلم الخصم أنه ضار، ولكن يرى أنه فضيلة. كذلك ربما مدح بالرذيلة على جهة المغالطة من جهة أنها نافعة، لكن لا يقر أنها رذيلة. بل يدعي فيها أنها فضيلة ما لمكان النفع الذي فيها. فإِذن كل واحدة من هذه المخاطبات قد تستعمل غاية صاحبتها بالعرض ولذلك لا يشاكس فيها، ويشاكس ولا بد في غايتها. وإِذا استعملت الواحدة غاية صاحبتها فعلى جهة المغالطة.
قال: ولما كانت هذه الصناعة قياسية، فمعلوم أنه يجب إِن تكون فيها مقدمات، ومقدماتها هي الثلاث التي وصفنا: المحمودات والدلائل والعلامات. وذلك إِن القياس المطلق يكون من المقدمات المطلقة. والقياس الخاص بصناعة صناعة يكون من مقدمات خاصة. ولذلك كان الضمير قياساً يأْتلف من هذه المقدمات التي ذكرنا. ولأَن الأَمر الذي يشير به يحتاج إِن يعرف من أمره أولاً أنه ممكن، لأَن الأُمور الغير ممكنة لا يستطاع إِن تفعل لا في الحاضر ولا في المستقبل. وكذلك يحتاج في الجنسين الباقيين من أجناس هذه الصناعة، أعني إِن نبين أولا إِن الأَمر قد كان وقع، أعني الجنس التثبيتي والجنس المشاجري. فإِذن لا بد لصاحب هذه الصناعة إِن تكون عنده مقدمات يقنع بها في إِن الأَمر ممكن أو غير ممكن، وفي أنه قد كان أو لم يكن، سوى المقدمات التي يبين بها تلك الغايات الثلاث. ثم أيْضا لما كان الخطباءُ ليس يقتصرون على المدح والذم والإِذن والمنع والشكاية والإِعتذار، بل يتكلفون مع هذا إِن يثبتوا إِن الأَمر - الذي هو خير أو شر - عظيم أو صغير، شريف أو خسيس، ولائق أو غير لائق، وذلك إِما على الإِطلاق وإِما بالمقايسة، أعني أنه أعظم وأشرف، أو بالضد، فمعللوم أنه ينبغي إِن تكون عند الخطباءِ مقدمات يثبتون بها إِن الخير أو الشر عظيم أوْ صغير، وخسيس أوْ شريف، ولائق بالمنسوب إِليه أو غير لائق. فهذه هي جميع أنواع المقدمات التي تستعملها هذه الصناعة.