وهاهنا ظلامات أَسماؤها الدالة عليها كافية في الدلالة على أَنها ظلم في الغاية وعلى تقدم الاختيار والروية لها دون أَن يحتاج في ذلك إِلى تحديدها، مثل السرقة والزنا. فإِن أَحداً ليس يتصور فيه أَنه يسرق أَو يزني غير مختار. ولذلك إِذا اعترف بهذه الأَسماءِ المدعى عليه، لم يبق له موضع اعتذار. فيجب على المتنصل أَبدا أَن يتحفظ من الاعتراف بهذه الأَسماءِ. وإِن اعترف فلا يعترف منها إِلا بالجنس فقط، مثل أَن يعترف بأَنه سب لا بأَنه افترى، ويقول: لأَن الافتراءَ إِنما هو قذف الرجل أَو قذف أَبويه بالزنا. وذلك أَن الذم بالنقائص يتفاضل. فإِن هاهنا نقائص لا يلحق الإِنسان منها بها عار وإِن كانت تضع منه، مثل البخل. وهاهنا نقائص تضع من الإِنسان ويلحقه منها عار عظيم، مثل الزنا. ولذلك غلظت الفرية في شرعنا. وكذلك يقول: إِنه أَخذ، لا أَنه سرق، إِذ كانت السرقة إِنما هي من حرز.
[فصل]
قال: وبعض الظلامات وما ليس بظلامات فيه سنن، وبعضها ليس فيها سنن. وما فيها سنن: فمنها ما هي سنن مكتوبة، ومنها ما هي غير مكتوبة. وكل واحدة من هذه ترسم العدل والجور، والخير والشر. فالخير بحسب السنن الغير المكتوبة هي الأَفعال التي كلما تزيّد الإِنسان منها إِلى غير نهاية تزيد حمده ومدحه أَو كرامته ورفعته، مثل معونة الأَصدقاءِ ومكافأَة المحسنين. والشر بحسب السنن الغير المكتوبة هو الفعل الذي كلما تزيد الإِنسان منه لحقته المذمة أَزيد، والهوان أَزيد، وذلك أَيضا إِلى غير نهاية، مثل كفر الإِحسان والإِساءة إِلى الأَصدقاءِ. وأَما الخير والشر في السنن المكتوبة فإِنه مقدر لا يزاد فيه ولا ينقص منه. ولما كان الأَمر على هذا وكانت السنة المقدرة لا تنطبق على كل شخص ولا في كل وقت ولا عند كل مكان، لم تكن كافية فيما تقدر من الخير والشر في معاملة شخص شخص من أَشخاص الناس، فاحتيج إِلى الزيادة والنقصان فيها بحسب ما تقتضيه السنة الغير المكتوبة. فوجب أَن يكون في هذه السنن الغير المكتوبة عدل مكتوب وتفضل: وهو إِما الزيادة على السنن المكتوبة، وإِما النقصان منها. فإِن كانت الزيادة على الخير المكتوب سمي إِحسانا، وإِن كانت الزيادة على الشر المكتوب سمي حِسبة. وإِن كانت نقصاناً من الشر المكتوب سمي صلحا وحلما واحتمالا، وما أَشبه ذلك من الأَسماءِ. وهذا قد يعرض في السنن المكتوبة للواضعين: إِما باضطرار، وإِما من قبل أَنفسهم. أَما من قبل أَنفسهم: فإِذا هم غلطوا فوضعوا تحديدا كليا، وليس بكلى. وأَما من قبل الأَمر نفسه: فمن قبل أَنه ليس يستطيع أَحد أَن يضع سننا كلية عامة بحسب جميع الناس في جميع الأَزمنة وجميع الأَمكنة، لأَن ذلك غير متناه، أَعني تبدل النافع والضار. وغاية الماهر في وضع السنن أَن يضع من ذلك ما هو أَكثري، أَعني لأَكثر الناس في أَكثر الأَزمنة وأَكثر المواضع. وكلما اجتهد الواضع في أَن تكون السنة التي يضعها منفعتها أَطول زمانا وللأَكثر من الناس، كانت السنة أَفضل. وإِذا كان الأَمر كذلك، فباضطرار أَلا تكون السنن المقدرة صادقة أَبدا ودائما، أَعني في كل شخص وفي كل وقت، ولذلك قد يحتاج إِلى الزيادة والنقصان فيها. وأَنت تتبين هذا من الملل المكتوبة في زماننا هذا.
والزيادة والنقصان فيها إِنما تكون تفضلا إِذا لحق ذلك مدح أَو كرامة. والحلم بالجملة هو التفضل في نقصان الشيء المكتوب أَو رفعه في الموضع الذي يلحق ذلك مدح أَو كرامة. مثال ذلك ما حكاه أَرسطو من أَن السنة كانت عندهم أَلا يشيل أَحد يده بالخاتم وأَن فعل ذلك يستوجب عقوبة وأَنه ظالم. والسنة الغير المكتوبة تقتضي أَن يصفح عن مثل هذا. فالصفح إِذن عن مثل هذا عدل. وكذلك يشبه أَن يكون الأَمر عندنا في قطع اليد في النصاب وبخاصة في المطعومات. وإِذا كان هذا هو الحلم فهو بيّن أَي الأَشياء هي من الحلم وأَيّ الأَشياء ليست هي من الحلم وأَيّ الناس هم الحلماءُ وأَيهم ليس كذلك. فإِن المرءَ إِنما يكون حليما في الأَشياءِ التي يجمل فيها الصفح.
قال: وضروب الإِساءة والظلم وإِن لم تكن صنفا واحداً بل أَصنافاً كثيرة، فليس يجب أَن يسوى بين ما يقع منها على جهة الخطاءِ وهو الذي يكون من السهو والغلط، وما ليس يقع على جهة الغلط وهو الذي يكون عن المكر والشر.