إِن المنة هي التي بها يقال لذي المنة أَنه ممتن. والأَشياءُ التي إِذا فعلت كانت منة هي أَحد أَمرين: إِما خدمة وهو العون بالبدن، وإِما صنيعة وهو العون بالمال أَو الجاه. وقد يكون العون بالبدن والمال من قبل الجاه. وإِنما تكون الخدمة أَو الصنيعة منة إِذا كانت مما لا يستطيع المصطنع إِليه أَن ينال تلك الخدمة أَو الصنيعة من إِنسان آخر غير المصطنِع، وكانت المنة مع هذا أَيضا لا ينال الفاعلَ لها شيءٌ منها، ولكن تكون كلها لمكان المصطنَع إِليه.
قال: وقد تكون الصنيعة جسيمة بالإِضافة، وإِن كانت في نفسها يسيرة بأَحد خمسة أَشياء: أَحدها إِذا كانت عند شدة الحاجة إِليها، أَو في وقت ضيق لا يلتفت فيه إِنسان إِنساناً مثل وقت الخوف الذي يذهل الناس فيه عن معونة بعضهم بعضا، أَو كان هو وحده المصطنِع فقط، أَو كان هو المصطنع الأَول، أَو كان الصنع منه زائداً على صنع غيره. والأَشياءُ التي تكون عندها شدة الحاجة ثلاثة أَصناف: أَحدها المتشوقات لضروريات في الحياة مثل الغذاءِ، والثانية الأَشياءُ التي يشتد شوق النفس إِليها وإِن لم تكن ضرورية مثل اشتياق الفواكه. والثالثة ما كان من الأَشياء يحزن فقده أَو يؤذي. فإِن المشتهيات المتشوقة هي هكذا، أَعني يحزن فقدها أَو يؤذي. والمشتهيات التي بهذه الصفة صنفان: صنف مألوف ومشتهى وهي المتشوقات، وصنف يشتاقها الإِنسان ويشتهيها عندما يكون في شدة وكرب. فإِن الذي يقع في الشدائد يشتهي الخروج منها، وكذلك الحزن يشتهى انكشاف الحزن عنه. ولذلك ما تعظم المنة عند الذين هم في حال خصاصة أَو هرب من أَعدائهم، أَعني إِذا أَخفوهم وستروهم عن الطالب لهم، وإِن كانت الصنيعة في نفسها قليلة لكن تعظم لشدة الحاجة وصعوبة الزمان.
فقد ظهر من هذا أَن الصنيعة اليسيرة تعظم عند أَمثال هؤلاءِ أَو عند الذين يساوونهم، أَعني الذين أَحوالهم شبيهة بهذه الأَحوال في الحاجة أَو عند الذين هم أَعظم من هؤلاءِ، أَعني أَحوالهم أَشد.
قال: وهو معلوم أَنه يستبين من هذا الذي قد قيل مَن الذي يمتن عليه، وبأَي شيءٍ تكون المنة، ومن الممتن، وأَنا نستطيع من قبل هذا الذي قيل أَن نثبت هذه الأَشياء الثلاثة. مثال ذلك: أَن الذين لا يخبرون بما فعلوا من الإِحسان هم ممتنون، وإِن الذين وصلتهم الصنيعة وهم في غموم وفاقة مثل الذي تقدم ذكرهم أَنهم ممتنون عليهم، وأَن أَفعال الصنائع التي تصطنع عند أَمثال هؤلاءِ وفي أَمثال هذه الأَوقات أَنها منة.
قال: وهو معلوم أَيضا من أَين تؤخذ المقدمات التي تدفع بها المنة وتوجب الجحود لها، وذلك يكون بوجوه ثمانية: أَحدها أَن تكون الصنيعة من أَجل المصطنِع، أَعني أَن تكون منفعتها عائدة عليه. والثاني أضن تكون الصنيعة أَقل مما يجب. والثالث أَن تكون بحيث لا يحتاج إِليها فإِن هذه ليست بمنة. والرابع أَن تكون الصنيعة وقعت بالمصطنَع إِليه باتفاق، لا بقصد. والخامس أَن تكون الصنيعة بكره واضطرار. والسادس أَن تكون الصنيعة قصد بها المكافأَة على صنيعة أُخرى تقدمت من المصطنَع إِليه إِلى المصطنِع. والسابع أَن تكون الصنيعة قصد بها إِذاعتها والمن بها. والثامن أَن يكون المصطنِع كلف المصطنَع إِليه أَمراً ما أَو حاجة له. وذلك أَنه من المعلوم بنفسه أَنه لا تكون صنيعة توجب الشكر إِذا وجدت بحال من هذه الأَحوال الثمانية. وقد ينتفع بهذه المقدمات في الشكاية في كفر الصنيعة وجحدها والتنصل منها، وذلك أَنه إِنما تكون منه إِذا كانت كما قيل من أَجل المصطنَع إِليه وبمقدار الحاجة وفي الوقت الذي لا يجد فيه ناصراً وفي الموضع الذي فرّ إِليه. ومن العلامات الدالة على المنة أَلا يكونوا قد قصروا في الصنيعة، وأَلا يكونوا فعلوا ذلك بالأَعداءِ، فإِنه يظن أَن فعلهم ذلك كان من أَجل كف شرهم، أَو يكونوا فعلوا ذلك بمن استوجب عندهم حقا مثله أَو أَعظم منه إِن لم يكن أَولئك إِنما استوجبوا عندهم الحق من قبل شيءٍ وصل إِليهم هو في الحاضر شر وفي المال خير مثل التأْديبات والشرور التي تكون بعدل وهي التي تكون على طريق المكافأَة فإِن أَحدا لا يعترف أَنه يحتاج إِلى الشر، وإِن كان طريق العدل. ولذلك ليس يراه منةً لأَحد.
قال: والقول في إِثبات المنة وجحودها يكون من هذه المواضع.