قال: وإِذا كانت أَصناف السياسات معلومة عندنا، فهو بيّن أَنا نستطيع أَن نعرف الأَخلاق والسنن التي تؤدي إِلى غاية كل واحدة من هذه السياسات، أَعني النافعة فيها، وأَن نعتمد في أَنفسنا التخلق بتلك الأَخلاق والتمسك بالصنف من السنن التي نروم الإِقناع فيها. فإِنه إِنما تكون الأَقاويل التي يحث بها على السنن مقنعة، إِذا كان المشيرون بها ذوي صلاح وحسن فعل، حتى تكون هذه الأَشياءُ المذكورة هاهنا معلومة لنا وموجودة فينا. فإِنه إِذا وجد فينا الخلق الذي نحث عليه، كان قولنا في الحث عليه أَشد إِقناعا. ولذلك ينبغي أَلا نشير إِلا بما هو موجود لنا أَو نحن عازمون على أَن يوجد لنا. ومعلوم أَن الوقوف على السنن النافعة في الغاية أَنه إِنما تستنبط على جهة التحليل من النظر إِلى الغاية. فقد تبين من هذا القول من أَين تؤخذ المقنعات في النافع من السنن في سياسة سياسة، وكم أَنحاءُ السياسات والسنن التي تحتذي فيها وذلك بحسب الكافي في هذه الصناعة. وأَما القول في هذه الأَشياءِ على التحقيق ففي الأَقاويل المدنية.
[القول في المدح والذم]
قال: وأَما بعد هذا فنحن قائلون في الفضيلة والنقيصة والجميل والقبيح، لأَن هذه هي التي يمدح بها ويذم. ويلحق من تعريفنا هذه الأَشياء أَن نعرف الأُمور التي بها يثبت المرءُ فضيلة نفسه، إِذ كان ذلك هو الطريق الثاني من الطرق الثلاثة التي يقع بها الإِقناع كما تقدم من قولنا، وذلك أَنه نوع من المدح، أَعني أَن يكون بالأَشياءِ التي نقدر بها على مدح غيرنا نقدر بها أَنفسها على مدح أَنفسنا. وإِن لم يكن ذلك يتفق لجميع الأَشياء التي يمدح بها الغير، بل إِنما يكون ذلك بالفضيلة فقط وهي الأُمور الراجعة إِلى الاختيار.
قال: ومن أَجل أَنه يعرض كثيرا أَن يمدح الناس الروحانيون بالفضيلة وبأَشياء غير الفضيلة، وليس يعرض هذا في مدح هؤلاءِ فقط، بل وفي مدح الأَشياءِ المتنفسة وغير المتنفسة، أَعني أَنها تمدح بأَشياءِ خارجة عن الفضيلة، فقد ينبغي أَن نقول هاهنا في الأَشياءِ التي تؤخذ منها المقدمات في المدح وبغير الفضائل ليكون القول في ذلك عاما.
فنقول: إِن الجميل هو الذي يختار من أَجل نفسه، وهو ممدوح وخير ولذيذ من جهة أَنه خير. وإِذا كان الجميل هو هذا فبين أَن الفضيلة جميلة لا محالة لأَنها خير وهي ممدوحة.
والفضيلة: هي ملكة مقدرة بكل فعل هو خير من جهة ذلك التقدير، أَو يظن به أَنه خير، أَعني الحافظة لهذا التقدير والفاعلة له، ولذلك كانت موجودة لكل فعل يقصد به نحو غاية ما، جليل القدر، عظيم الشأْن في حصول تلك الغاية عنه.
فأَما أَجزاءُ الفضيلة: فالبر أَي العدل العام والشجاعة والمروءَة والعفة وكبر الهمة والحلم والسخاء واللب والحكمة. وهذه الفضائل منها ما هي فضائل في ذات فقط، ومنها ما هي فضائل من جهة أَنها تفعل في أُناس آخرين. وهذه التي تفعل في أُناس آخرين تكون أَعظم عند قوم منها عند آخرين، وفي حال دون حال. مثال ذلك أَن فضيلة الشجاعة آثر في وقت الحرب منها في وقت السلم. وأَما فضيلة العدل فمؤثرة في السلم والحرب جميعا. وفضيلة السخاءِ والمروءَة عند المحاويج آثر منها عند غير المحاويج. وإِنما تنفصل فضيلة المروءَة من السخاءِ بالأَقل والأَكثر، لأَن فعل كلتيهما هو في المال، لكن المروءة هي فعل أَكثر من فعل السخاءِ.
فأَما البر فهو فضيلة عادلة يعطى الفاضل بها لكل امرئ من الناس ما يستحق وذلك بقدر ما تأْمر به السنة. والجور هو الخلق الذي يأْخذ به المرء الأَشياء الغريبة التي ليس له أَن يأخذها في السنة.
وأَما الشجاعة ففضيلة يكون المرءُ بها فعالا للأَفعال الصالحة النافعة في الجهاد على حسب ما تأمر به السنة حتى يكون بفعله ذلك خادما للسنة، وأَما الجبن فضد هذا.
وأَما العفة ففضيلة يكون بها المرءُ في شهوات البدن على مقدار ما تأمر به السنة، والفجور ضد هذا.
وأَما السخاءُ ففضيلة تفعل الجميل المشهور في المال، والدناءة ضد هذا.
وأَما كبر الهمة ففضيلة يكون بها حسن الأَفعال العظيمة. وصغر النفس والنذالة ضدها.
وأَما اللب ففضيلة العقل الذي يكون به حسن المشورة والروية مع وجود الفضائل الخلقية له التي هي من صلاح الحال.