لكن أَهم وأَعظم ما فيها هو القول في الأَشياءِ التي بها يقدر على جودة الإِقناع في السنن والإِشارة بالسنن التي لا يوجد أَنفع منها. ولذلك قد يجب أَن نستقصي القول فيها هاهنا، فنقول: إِن الإِشارة بالسنن النافعة والإِقناع التام فيها يتأَتى بمعرفة أَصناف السياسات والأَخلاق والسنن التي تخص سياسة سياسة. وذلك أَن في كل واحدة من السياسات سننا نافعة فيها، وهي السنن التي بها يكون خلاص تلك المدينة وقوامها. والسنن النفيسة الخطيرة هي السنن العادلة، أَعني الموضوعة في العدل التي رسمها الرئيس الأَول في تلك المدينة أَو المسلط عليها من قبل الرئيس الأَول. وهذه السنن النفيسة، أَعني السنن العادلة، تختلف في السياسات بحسب اختلاف غايتها، وعددها على عدد السياسات.
مثال ذلك أَن العدل في سياسة تغلب أَنه لا شيء على الرئيس إِذا لطم المرؤوس. وفي سياسة الحرية، العدل في ذلك أَن يلطم الرئيس مثل اللطمة التي لطمها.
والسياسات بالجملة أَربع: السياسات الجماعية، وسياسة الخسة، وسياسة جودة التسلط، وسياسة الوحدانية وهي الكرامية.
وهذه السياسات كلها المقصود بالسنن الموضوعة فيها إِنما هو المدينة والكل لا الشخص. د فأَما المدينة الجماعية فهي التي تكون الرياسة فيها بالاتفاق والبخت لا عن استئهال، إِذ كان ليس في هذه المدينة لأَحد على أَحد فضل.
وأَما خسة الرياسة فهي التي يتسلط بها المتسلطون على المدنيين بأَداءِ الإِتاوة والتغريم، لا على جهة أَن تكون نفقة للحماة والحفظة ولا عدة للمدينة، على ما عليه الأَمر في السياسات الأُخر، بل على جهة أَن تحصل الثروة للرئيس الأَول. فإِن جعل لهم حظا من الثروة كانت رياسة الثروة. وإِن لم يجعل لهم حظا من الثروة كانت رياسة التغلب، وكانوا بمنزلة العبيد للرئيس الأَول، وكانت محاماته عنهم بمنزلة محاماة الإِنسان عن عبيده.
وأَما جودة التسلط فهو التسلط الذي يكون على طريق الأَدب والاقتداء بما توجبه السنة، فإِن الذين يشيرون بما توجبه السنة لهم هم متسلطون بجودة التسلط.
وهذا هو التسلط الذي يحصل به صلاح حال أَهل المدينة والسعادة الإِنسانية. ولذلك كان هؤلاءِ أَهل فضائل واقتدار على الأَفعال التي تصلح المدينة، وأَهل حزم وتحرز مما شأْنه أَن يفسد المدينة من خارج أَو من داخل. ولذلك سميت هذه المدينة بهذا الاسم. وهذا التسلط الذي ذكره صنفان: رياسة الملك وهي المدينة التي تكون آراؤها وأَفعالها بحسب ما توجبه العلوم النظرية. والثانية: رياسة الأَخيار وهي التي تكون أَفعالها فاضلة فقط. وهذه تعرف بالإِمامية، ويقال إِنها كانت موجودة في الفرس الأَول فيما حكاه أَبو نصر.
قال: وأَما وحدانية التسلط فهي الرياسة التي يحب الملك أَن يتوحد فيها بالكرامة الرياسية وأَلا ينقصه منها شيء بأَن يشاركه فيها غيره، وذلك بضد مدينة الأَخيار.
وهذه المدن ربما كانت السنن الموضوعة فيها محدودة غير متبدلة واحدة في الدهور، على ما عليه الأَمر في سنتنا الإِسلامية، وربما كانت غير ذات سنن محدودة، بل يفوض الأَمر فيها إِلى المتسلطين عليها بحسب الأَنفع في وقت وقت، على ما عليه الأَمر في كثير من سنن الروم اليوم.
قال: وليس ينبغي أَن يخفى علينا من هذا الذي رسمنا به هذه السياسات غاية كل واحدة منها، لأَنا إِذا عرفنا الغاية علمنا الأَشياء المختارة من أَجل الغاية. فغاية السياسة الجماعية الحرية، وغاية خسة الرياسة الثروة، وغاية جودة التسلط الفضيلة والتمسك بالسنة، وغاية الوحدانية الكرامة.
والسياسات التي ليس يوضع فيها سنن غير متبدلة فغاية واضعها هو التحفظ والاحتراس من الخلل الواقع في السنن بتبدل الأَزمنة والأَمكنة.
وينبغي أَن تعلم أَن هذه السياسات التي ذكرها أَرسطو ليس تلفى بسيطة، وإِنما نلفى أَكثر ذلك مركبة، كالحال في السياسة الموجودة الآن، فإِنها إِذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب.