وموضع آخر قوي في تثبيت السنة المكتوبة: وهو أَن واضعها نسبته إِلى الجمهور في تقدمه بعلم المصالح نسبة الطبيب إِلى الذين يطبهم، وبالجملة نسبة أَهل الصنائع إِلى من لم يكن من أَهل تلك الصناعة. وكما أَن الطبيب ليس ينبغي للإِنسان العليل أَن يتوانى أَو يتردد في قبوله قوله أَو تأوله، كذلك الحال في قبول قول الواضع للسنة المكتوبة، بل المضرة في مخالفة واضع السنن أَشد من المضرة في مخالفة الطبيب. وذلك أَن مخالفة الطبيب إِنما تلحق منها مضرة لواحد من الناس، ومخالفة واضع السنن يلحق منه هلاك أَهل المدينة بأَسرها.
وموضع آخر: وهو أَن الذين ينصبون حكاما في المدن إِنما هم الذين علموا السنن المكتوبة، لا السنن الغير المكتوبة. فإِن كل الجمهور يستوون في إِدراكها. وإِذا كان ذلك كذلك، فواجب أَن تمتثل السنن المكتوبة، وإِلا كان استعمال الحكام عبثا وباطلا.
فهذا جملة ما قاله في السنن.
[القول في الشهود]
فأَما الشهود، فمنهم قوم قد سلفوا، ومنهم حدث وموجودون. ومن الحدث من يشارك المشهود له في الخير الذي يرجوه أَو الشر الذي يخافه. وأَعني بالشهود القدماء الأَسلاف المعروفين المقبولين عند جمهور الناس المشهور فضلهم. فهؤلاءِ تقبل شهادتهم على الأَشياءِ السالفة سواء أَخبروا أَنهم عاينوها أَو لم يخبروا بذلك، لأَنه يحمل أَمرهم على الجملة فيما أَخبروا به على التصديق. والشهادات: إِما شهادة على أَشياء سالفة وهي التي لم يدركها أَكثر الموجودين في ذلك الوقت، وإِما شهادة على أُمور موجودة، وإِما شهادة على أُمور مستقبلة. فأَما الأَشياءُ السالفة فإِن الشهود عليها هم الأَسلاف لا محالة. وأَما الأَشياءُ الموجودة في زماننا فإِن الشهود عليها مَنْ في زماننا. وأَما الأَشياءُ المستقبلة فقد يكون الشهود عليها قوما تقدموا وقوما موجودين في زماننا هذا. والشهود على الأَشياء المستقبلة صنفان: الكهان سواء كان تكهنهم بصناعة أَو بغير صناعة، وذوو الأَمثلة السائرة التي تمنع أَو تأذن في العمل، مثل ما يقال: صل رحمك، فإِن صاحب الشرع عليه السلام قد قال: صلة الرحم تزيد في العمر. وأَشباه هذا. فأَما الشهود الموجودون فالمقبولون والمعمول بشهادتهم هم الذين امتحنهم أَهل معارفهم، أَعني جيرانهم أَو قرابتهم أَو أَهل مدينتهم، فوجدوها مقيمين على الأَحوال التي تقبل بها شهادتهم غير منتقلين عنها. وأَما الشهود من الأَسلاف فقد استقر عمرهم على القبول، فلذلك ليس يحتاجون إِلى الامتحان، وأَعني بالقبول إِما عدالتهم إِن شهدوا على أَشياء ماضية، وإِما صحة وجود الملكات لهم التي يخبرون بها عن الأُمور المستقبلة إِن كانت شهادتهم في أُمور مستقبلة. ومما يشترط في قبول شهادة الشهود الحدث أَلا يشاركوا المشهود له في خير يرجوه ولا شر يتوقعه، مثل أَن يكونوا آباء للمشهود له أَو أَبناء أَو قرابة. وذلك أَنه إِن أَراد منهم أَن يكذبوا، كما يقول أَرسطو، ربما كذبوا. وأَما الأَسلاف فليس يتصور فيهم هذا إِذ قد عدموا. والشهود الحدث إِنما تقبل شهادتهم إِذا شهدوا أَن الأَمر كان أَو لم يكن، وليس تقبل شهادتهم على أَن الأَمر عدل أَو جور. وأَما الأَسلاف فإِنه تقبل في ذلك شهادتهم، إِما لأَنهم لا يتهمون، لأَنهم ليسوا مشاركين للشهود له؛ وإِما لأَن قولهم يحمل على أَن الحاكم كان كذلك في الزمان السالف. والتصديقات قد تقع من قبل الشهادات، وقد تقع من قبل قرائن الأَحوال المشاكلة، فتقوم مقام الشهادات والحكم بقرائن الأَحوال المشاكلة هو من فعل ذوي الفطانة والحذق من الحكام. ولذلك ينبغي للحاكم أَلا يغلط في المشاكلات المموهة كما لا يغلط الصيرفي في الفضة المغشوشة. وإِذا كانت هذه الأَحوال قد توقف الحاكم على الأَمر الصادق نفسه، مع كون الشهادة الكاذبة مضادة لها، فهي أَحرى أَن توقف عليه حيث لا تكون هنالك شهادة، أَو حيث تكون الشهادة موافقة لها ولذلك كانت هذه الأَحوال تقوم عند الحكام مقام الشهود. فإِنه لا خلاف بين أَن يحكم بالشهود أَو يحكم بهذه الأَحوال المشاكلة التي تقترن بالمتكلمين. وهذه الأَحوال هي غير الضمائر، ولذلك عدت مع الشهادات.