وينبغي أَن تعلم أَن الأَخذ بالوجوه ليس له غناء في الخطب المكتوبة، وإِنما غناؤه في المتلوة، وإِن عادة العرب في استعماله قليلة، وأَما من سلف من الأُمم فربما أَقاموها في الأَشعار مقام الأَلفاظ، أَعني التشكيلات، ويحذفون اللفظ الدال على ذلك المعنى، إِما إِرادة للاختصار وإِما طلبا للوزن، والإِلذاذ. وهذا لم تجر به عادة العرب. لهذا صار ما يقوله أَرسطو في كثير من هذه الأَشياءِ، كما يقول أَبو نصر، غير مفهوم عندما ولا نافع. والأَخذ بالوجوه إِنما هو نافع أَكثر ذلك في الخطب التي تتلى على جهة المنازعة، لأَنه إِنما يحتاج إِلى الاستعانة بجميع الأَشياء المقنعة في موضع المنازعة لتحصل الغلبة. وأَمثال هذه الخطب هي الخطب التي كانت بين علي ومعوية. وأَمثال ذلك في الأَشعار: الأَشعار التي كانت بين جرير والفرزدق. وإِنما صارت هذه الأَفعال معينة في الإِقناع، لأَن فيها ضربا من تغيير الأَلفاظ وإِبدالها، على ما سيقال في سبب ذلك فيما بعد. وهذا الفعل هو ضرب من التمويه والمغالطة، إِلا أَنه نافع في هاتين الصناعتين، أَعني الشعرية والخطبية، إِذ كانت الخطبية إِنما يقصد بها وقوع غلبة الظن، والشعرية حصول التخييل نفسه، ولذلك تستعمل من الأَشكال والنغم في طل المحاكاة ما إِن استعمل في الخطابة، كان خروجا عن الواجب.
وإِذ قد قلنا في توابع الأَلفاظ، فلنقل في الأَلفاظ.
القول في الأَلفاظ المفردة
فنقول: إِن القول في أَحوال الأَلفاظ التي تكون بها أَتم إِبانة عن المعاني وأَجود تفهيما لها هو ضروري في المخاطبة البرهانية، فضلال عن الأَقاويل البلاغية والشعرية. ولذلك أَن جهة استعمالها في المخاطبة البرهانية إِنما هو لأَن يكون بذلك حصول البرهان أَيسر وأَسهل وأَوضح، مثل ما يقال: إِنه ينبغي أَن تكون الأَلفاظ المستعملة فيه متواطئة، غير مشتركة، مشهورة عند الجمهور أَو عند أَهل تلك الصناعة التي يستعمل فيها ذلك البرهان. وإِن كانت مشتركة، أَن تقسم جميع المعاني التي يقال عليها ذلك الاسم المشترك، ويبرهن على كل معنى من تلك المعاني على حدته، لأَن للأَلفاظ في ذلك معونة في زيادة التصديق الحاصل عن البرهان وقوته كالحال في الصنائع الأُخر، فإِنه يلفى لها معونة في إِيقاع التصديق المستعمل فيها. وإِن كانت في ذلك تختلف، فأَقلها حاجة في ذلك صناعة الجدل، ثم من بعدها السفسطة، ثم من بعدها صناعة الشعر. فهاتان الصناعتان أَكثر حاجة إِلى ذلك. فلذلك ما ينبغي في هاتين الصناعتين أَن تحصى الأَحوال التي إِذا استعملت في الأَلفاظ كانت بها الأَقاويل البلاغية أَتم إِقناعا، والشعرية أَتم تخييلا. فإِنه كما أَن الأَخذ بالوجوه. إِنما منفعته في هاتين الصناعتين هذه المنفعة، كذلك الحال في الأَلفاظ. إِلا أَن القول في أَحوال الأَلفاظ التي بها تكون الأَقاويل في هاتين الصناعتين أَتمَّ فعلا أَعظمُ نفعا وأَحرى أَن يكون القول في ذلك صناعيا. فإِن الأَخذ بالوجود أَكثر ذلك طبيعي. وإِنما صارت الأَلفاظ والأَصوات تفعل في هاتين الصناعتين هذا الفعل من جهة أَنها تخيل في المعنى رفعة أَو خسة، وبالجملة: أَمراً زائداً على مفهوم اللفظ، مثل غرابة اللفظ فإِنها تخيل غرابة المعنى، وكذلك فخامته تخيل فخامة المعنى، والنغم كذلك يفيد فيه هذا المعنى أَيضا. وبيَن أَن هذا مقصود بالطبع للمتكلم على طريق هاتين الصناعتين. وليس يقصد ذلك أَحد عندما يتكلم على طريق الهندسة، ولا على طريق العدد. والذين وقعوا أَولا على تأثير هذه الأَحوال من الأَلفاظ والأَصوات في الأَقاويل هم الشعراءُ. وذلك أَن هذا المعنى أَظهر ما يكون في الأَقاويل الشعرية، مع أَن الوقوف على الأَقاويل الشعرية هو متقدم بالزمان على الوقوف على الأَقاويل البلاغية. وإِذا قد تقرر هذا من ضرورة القول في الأَلفاظ في هاتين الصناعتين، فينبغي أَن نذكر من ذلك ما يخص البلاغة وما هو مشترك بين تلك الصناعتين معا، فنقول: إِن الأَلفاظ المفردة، كانت اسما أَو كلمة أَو حرفا، تنقسم من جهة أَنحاءِ دلالاتها ثمانية أَقسام: منها المستولية؛ ومنها المغيرة، ومنها الغريبة، ومنها اللغات، ومنها المزينة، ومنها المركبة، ومنها المغلطة، ومنها الموضوعة.