قال: وهو معلوم أَيضا من الحد مَن الناس الذين يأسى المرءُ ويأسف على أَلا يكون له حالهم. وذلك أَن الأَسى إِنما يكون على أَحوال الناس الذين توجد لهم الأُمور المكرمة التي ذكرناها مثل الجمال واليسار والشجاعة والحكمة والرياسة. وإِنما صارت الرياسة من الأُمور التي يأسف الناس على فقدها لأَن أَهل الرياسات يقدرون على الإِحسان إِلى أَكثر الناس، ومن أَعظم أَفعالهم التي يفعلون بها ذلك قود الجيوش والخطابة إِلى غير ذلك من ملكات الرياسات وأَحوالها التي يفعلون بها الإِحسان إِلى الناس. وكذلك كل من ينحو نحو الرؤساءِ ممن له ملكة رياسية أَو حالة رئيسية يصدر منها إِحسان إِلى الغير.
ومن الناس الذين يأسى المرءُ على أَلا يكون مثلهم الذين يود كثير من الناس أَن يكون مثلهم، وأَن يكونوا من معارفه. ومن هؤلاءِ أَيضا الذين يتعجب منهم كثير من الناس. ومن هذا الصنف الذين ينطق بالثناءِ عليهم الشعراء والخطباء ومخلدو الكتب، أَعني المؤرخين. فإِن هؤلاءِ الثلاثة الأَصناف هم الذين ينطقون بالمدح والثناء. والصنف أَيضا من الناس الذين لا يكترثون بالخيرات التي فيها غيرهم، ولا يلأسفون عليها لأَن عندهم: إِما جميع الخيرات التي يؤسف على فقدها، وإِما أَعظم الخيرات وأَجلها قدراً، فقد يأسف المرءُ أَلا يكون في مثل أَحوال هؤلاءِ؛ لأَن الاكتراث ضد الأَسف، والذي لا يكترث ضد الذي يأسف. والذين يأسفون هم الناس الذين تكون لهم الشرور المضادة للخيرات التي يكون عنها الأَسف. ومن هنا يبين عدم الاكتراث الذي هو ضد الأَسف، ومَن الذي لا يكترث له. فإِنه لا يكترث أَحد بأَحوال الناس الأَسفين. ومن الناس الذين لا يكترث بهم ذوو الجَد، أَعني السعداء، إِذا كان لهم الجَد خلواً من الفضائل التي تستحق الخير الذي نالهم بالاتفاق، فإِن الناس يستخفون بأَمثال هؤلاءِ ولا يكترثون بأَحوالهم.
[القول في الخلقيات]
قال: أَما الأَحوال التي إِذا وجدت في الناس اعترتهم الانفعالات بها وهي التي يكون المرءُ بها مستعدا وهي التي يتوطَّأُ بها لقبول الانفعال والأَشياءُ التي يكون عنها الانفعال أَو زوال الانفعال والسلو عنه وهي التي منها تعمل المقاييس الانفعالية فقد قيل في ذلك في هذه المقالة.
وأَما الأَشياءُ التي تعمل منها الأَقاويل التصديقية في جنس جنس من الأَجناس الثلاثة، أَعني المشورية والمنافرية والمشاجرية، فقد قيل فيها في المقالة الأُولى.
وقد بقي أَن نقول هاهنا في الأَحوال التي يتبعها خلق خلق من الأَخلاق. فإِن بمعرفة أَي خلق يتبع أَي حال يمكننا أَن نحرك الذي نخاطبه إِلى أَن يتخلق بذلك الخلق، وذلك إِذا أَوهمناه وجود تلك الحال فيه أَو كانت موجودة مثال ذلك أَن كبر النفس يتبعه السخاء. فإِذا أَثبتنا عند إِنسان ما أَنه كبير النفس حركناه إِلى السخاءِ بأَن نؤلف له القول هكذا: إِنه كبير النفس، والكبير النفس يجب أَن يكون سخيا، فإِنه واجب أَن يكون سخيا. وكذلك ما أَشبه هذا.
قال: وهذه الأَحوال وهي التي المقصود منها تعديدها وأَي خلق يتبع واحدا واحدا منها هي خمسة: أَحدها: الانفعالات. والثاني: الهمم. والثالث: الأَسنان. والرابع: الجدود. والخامس: الأَنفس.
وأَعني بالانفعالات مثل الغضب والرحمة، فإِن هذه يتبعها خلق خاص، وبالهمم الأَشياء التي يختارها كل صنف ويؤثرها في حياته سواء كانت صناعة أَو فضيلة أَو لذة ينهمل فيها. فإِن الأَخلاق أَيضا تختلف باختلاف هذه. وأَعني بالأَسنان سن الشباب وسن الإِكتهال وسن الشيخوخة، وذلك أَن لهذه الأَسنان أَخلاقا خاصة بها. وأَعني بالجدود الأَشياء التي تحصل للإِنسان في بدنه ومن خارج بدنه بالاتفاق وذلك مثل الحسب واليسار الشاذ والجَلَد المفرط، وأَعني بالنفوس الفطر المتباينة التي فطر عليها الناس والعادات المختلفة.