وموضع آخر نافع في أَخذ المقدمات المتضادة: وهو أَن هنا أَحوالا لأَشياء تلحق تلك الأَحوال أَشياء متضادة. فإِذا أَخذت تلك الأَحوال حدودا وسطى أَمكن أَن يقنع بها في الشيءِ وضده. وهذا الموضع يخالف سائر المتضادات بأَن هذه الأَحوال ليست متضادة. مثال ذلك أَن يقول القائل: أَما أَنا عند الخوف فإِني لا أُقاتل بل أَهرب، وذلك أَن بالهرب أَتخلص، وإِذا أَمنت قاتلت، أَو يقول: بل إِذا خفت قاتلت، فأَنا بالقتال أَتخلص. وإِذا أَمنت لم أَحتج إِلى القتال.
وموضع تستعمل فيه الأَشياءُ التي تلزم عنها غايات شتى، وهو أَن ننظر في الأَشياءِ التي إِذا كانت، احتملت غايتين مختلفتين أَو غايات كثيرة، فإِنا إِذا أَخذنا تلك الأَشياء حدودا وسطى، أَمكننا أَن نقنع بها في الشيءِ وخلافه. وذلك مثل أَن يقال: إِن فلانا لم يؤدب فلانا لأَن الشرع أَقتضى تأَديبه، بل لأَنه كان حاقدا عليه. ومثل أَن يقول القائل في شيء دفعه لغيره: إِنما دفعت لك عارية، ويقول الآخر: إِنما دفعته هبة. وهو موضع يستعمل في الأَصناف الثلاثة الخطبية.
وموضع آخر عام للذين يختصمون وللذين يشيرون وهو أَن ينظر في الأَشياءِ التي يرغب فيها وفي الأَشياءِ التي لا يرغب فيها وفي الأُمور التي من أَجلها يفعل الشيء إِذا وجدت، أَو لا يفعل إِذا عدمت. فمن ذلك إِن كان الأَمر ممكنا وكان سهلا وكان نافعا له وللأَصدقاء وضارا للأَعداءِ أَو غير ضار أَو كان الضر فيه أَقل من المنفعة، فالمرغب أَو المحرض ينبغي أَن يستعمل هذه ونحوها؛ فأَما الذي يصد أَو يكف فأَضداد هذه. ومن هذا يشكو الشاكون ويجيب المجيبون. أَما الشكاية فمن الذي يرغب، وأَما الاعتذار فمن الذي يصد. ومن هذا الموضع، فيما قال أرسطو، تؤخذ خطابة رجلين من القدماءِ مشهورين بالخطابة عندهم.
وينبغي أَن تكون المقدمات التي تستعمل هاهنا من الأَشياءِ المظنونة المقبولة في بادئ الرأي، لا من الأَشياءِ التي لا يصدق بها إِلا أَن تكون مما يمكن أَن تقبل ويقع بها الإِقناع من قرب وبسهولة. وذلك أَن الأَشياءَ التي يقع بها التصديق هاهنا صنفان: أَحدهما ما إِذا سمعه الإِنسان، صدق به وقبله من ذاته، والآخر ما إِذا سمعه، قبله لشهرته ولأَنه محمود عند الجميع.
والصنف الأَول إِنما يقع له بالتصديق لأَنه يظنه من الثاني، أَعني من المشهور. فتكون المقدمات المظنونة صنفين: صنف يصدق به لأَنه مشهور، وصنف يصدق به لأَنه يظن من المشهورات. وذلك أَن التصديقات ثلاثة أَصناف: إِما يقيني، وإِما مشهور حقيقي، وإِما في بادئ الرأي. فمتى عرى القول الخطبي من هذين الصنفين ولم يكن مما يقع التصديق به عن قرب لم يَنْبَغ أَن يستعمل في هذه الصناعة. ومثال ما يقع الإِقناع به عن قرب ما قال بعض القدماءِ: إِن السُّنة تحتاج إِلى سُنة تقومها، كما يحتاج السمك الذي في البحر إِلى الملح، والبحر مالح، وكما يحتاج الزيتون إِلى الزيت، وفيه الزيت. فإِن هذا، وإِن كان غير مقنع، فقد يقع به الإِقناع عن قرب، إِذا زيد فيه أَن السمك يحتاج إِلى الملح إِذا أُريد بقاؤه بحفظه وأَن يجعل له طعما آخر. وكذلك يزاد في الزيتون إِذا أُريد بقاؤه وتغيير طعمه، أَعني أَن يجعل الزيت فيه، وإِلا فما هو المقنع أَن يقال إِن الذي في الملح يحتاج إِلى والذي في الزيت يحتاج إِلى الزيت عن قرب.
[القول في مواضع التوبيخ]
فمنها أَن ننظر في الخيرات والشرور التي يذكر بها الخصم بالمدح أَو بالذم مما هو خارج عن ذلك الأَمر الذي فيه القول، وذلك ما كان منها متحدثا به عند الناس وجاريا على أَلسنتهم وأَفواههم، أَو كانوا مستعدين لأَن ينطقوا به، وإِن لم ينطقوا به بعد، أَعني من أَفعال الخصوم وأَقوالهم الماضية والحاضرة، فسيتعلمون توبيخ الخصوم بذلك عندما يلزمونها أَمراً ما، كما قيل: إِنكم قوم تحبون حبا يجمع الاَسم والحد، يريد أَن مودتهم صادقة وأَنها من قلوبهم. وكما قيل: إِنه لم يعط أَحدٌ منكم قط شيئا، وأَما أَنا فقد وهبت للكثير منكم. وبالجملة فليكن النظر هاهنا في كل ما يذكر به المتخاصمان معا مما هو خارج عن المقدمات التي تستعمل في بيان الشيء.