وموضع آخر مأخوذ من أَشباه الأَفعال التي يوبخ بها ومن خيالاتها وأَشباه الخصوم من الناس، وذلك إِذا لم يقدر المشكو به أَن يثبت العلة في ذلك الأَمر والسبب فيه، أَعني في ارتفاعه عنه حتى يزول قبح ما ذكر به. فإِنه قد يعتذر المشكو به بأَن شبيه ذلك الفعل قد كان من الشاكي، أَو قد كان ذلك الفعل بعينه من شبيهه من الناس. وهذا هو التأَسي. وإِنما يفزع إِليه حيث لا يقدر الخطيب على إِعطاءِ السبب الذي يزيل التهمة عنه.
وموضع آخر أَن يجعل الشيء نفسه هو العلة، وهو في الحقيقة مصادرة، لكن هو هاهنا مقنع من جهة شهرته، وليس يرى الجمهور فيه أَنه مغالطة. وذلك يكون بتغيير اللفظ أَو بتبديله، لا بأَن يأتى بذلك اللفظ بعينه، مثل أَن يقول إِنه موجود أَو إِنه ليس بموجود لأَنه ليس بموجود بل كما قال بعض القدماءِ حيث نفاه إِنسان عن بلده ونسبه: إِنه في نسبه وبلده كذا، لأَن هذا مكتوب في رأس المدينة على صومعة هنالك. وذلك أَن العادة كانت عندهم أَن تكتب أَسماءُ أَهل بيوت المدينة في صوامع مشهورة. وذلك عندنا مثل أَن يقول القائل: إِن نسب فلان كذا، لأَن به تقع شهادته في العقود.
وموضع آخر من التوبيخ: وذلك إِذا فعل فعلا وترك ما هو أَفضل منه مع إِبطاله له.
وموضع آخر: أَن ننظر هل يفعل المشير بالأَمر ذلك الشيءَ الذي أَشار به، إِذا كان ممكنا له فعله. فإِنه إِن لم يفعل ما أَشار به وهو له ممكن كان فيه موضع توبيخ له. لأَن الذي أَشار به: إِن كان خيرا يكتسب أَو شرا يجتنب، فليس يختار أَحد ترك فعل الخير أَو اجتناب الشر طوعا. وهذا الموضع كاذب. فإِنه قد يشير الإِنسان بالشيءِ وهو يظنه في وقتٍ ما يشير به خيرا، ثم يتبين له أَنه ليس بخير، فلا يفعله، وهو قد كان أَشار به. ومن هذا عندنا أَن يَرْوى الراوي الحديث ويترك العمل به.
وموضع آخر: وهو أَن ينظر إِلى الفعلين اللذين يفعلهما الإِنسان، هل أَحدهما يلزم عنه - إِذا فعله - أَلا يفعل معه الآخر، فيكون في ذلك موضع توبيخ. قال: مثل أَن يبكى على الميت، ويتقرب بالصدقة عنه. فإِن البكاءَ يدل على موته، والتقرب على حياته.
وموضع آخر: أَن ينظر في الشيءِ الذي يجعل دليلا على الشكاية، فيقيم منه دليلا - إِذا أَمكن - على الاعتذار، أَو يكون الشيءُ الذي يعتذر به يفهم منه نفسه دليل على الشكاية. وذلك يكون على وجهين: إِما أَن في طباع الدليل ذلك، مثل أَن يوجد إِنسان في وسط الدار واقفا، فيقال إِنه لص، لأَنه وجد في هذا الموضع، فيقول هو: لو كنت لصا، لم أَكن واقفا في وسط الدار.
والوجه الثاني: أَن يوجد في ذلك القول الذي يعتذر به المعتذر أَو يشكو منه الشاكي موضعٌ يستدل به منه ضد استدلاله. فإِن كان في اعتذار، استدل منه على الشكاية، وإِن كان في شكاية، استدل منه على الاعتذار. وذلك من خطاء يعرض في القول من زيادة أَو نقص أَو إِهمال شرط من شروطه. مثل أَن يتهم إِنسان بأَنه سرق شيئا من منزل اتفق أَن قُتل صاحبه فيه، فيقول: لم أَسرق منه شيئا، ولا قتلت صاحبه. فإِن في مثل هذا الموضع تتأَكد التهمة عليه، إِذ كان قد أَخطأَ وزل في أَن أَجاب عن ما لم يُسئل عنه. وقد كان بعض المشاهير في هذه الصناعة إِنما يؤلف خطبه من هذا الموْضِع.