وموضع آخر تكتسب المقدمات فيه من اسم الشيء. وذلك إِما باشتقاق وإِما بنقل وإِما باستعارة. مثال ذلك أَن يكون رجل اسمه حديد أَو مقاتل، فيتفق أَن يكون في نفسه حديدا أَو مقاتلا، فيقول: أَنت حديدٌ، يا حديد؛ وأَنت مقاتلٌ، يامقاتل. وربما كان بنقل الاسم كما هو، وربما كان بتغيير قليل كما قيل: أَمتك آمنة. وكما قال بعض الملوك لرجل شاعر يعرف بابن فاتك: أَنت ابن باتك فقال: أَنا ابن بابك. فهذه جملة المواضع التي تشتمل على التثبيتات والتوبيخات بحسب ما ذكر أَرسطو. والتوبيخات بالجملة أَنجح وأَنجع من التثبيتات، لأَنها تخيل إِلى السامع مع الشيءِ ضده. فيكون تصوره أَتم وأَلذ. وأَيضا فإِن الموبخات لقرب بيانها تؤلف من أَلفاظ أَقل، فتكون أَسهل حفظا وأَسرع إِبانة للشيء. وهما بالجملة متقاربان، لكن الموبخات أَبين وأَظهر عند السامع، وكلاهما يفعل الاقناع المحرك للنفس لا سيما ما كان منها إِذا ابتدأَ الخطيب بصنعته أَحس هو والسامعون بالغاية المقصودة منه. وبالجملة فيقفون منه على الشيء اللازم التالي لصدر القول. فإِن الضمائر التي بهذه الصفة قد يفرح بها المتكلمون إِذا أَحسوا منها بهذا المعنى، فضلاً عن السامعين. وهذه المواضع بالجملة إِذا تحصلت للإِنسان أَمكنه أَد يدرك بها من هذه الصناعة في زمانٍ قصير وتعبٍ يسير ما شأنه أَن يدرك في زمانٍ طويل وتعبٍ كثير.
ولما كان هاهنا في الصناعتين المتقدمتين، أَعني صناعة البرهان والجدل، صنفان من القياس: أَحدهما هو قياس بالحقيقة في تلك الصناعة والآخر مموه يظن به أَنه من مقاييس تلك الصناعة وليس هو من مقاييسها، كذلك الأَمر في صناعة الخطابة فإِن فيها ما هو ضميرٌ بالحقيقة ومنها ما هو ضمير مموه. والأَشياءُ التي تفعل ذلك هي التي أُحصيت في كتاب سوفسطيقي، إِلا أَنه يذكر المشهور منها هاهنا، أَعني المشترك وما هو أَيضا منها خاص بهذه الصناعة. إِذ كانت القياسات السوفسطائية منها ما هي مشتركة للصنائع كلها ومنها ما يخص صناعة دون صناعة، وذلك أَنه كما أَنه قد يكون قياس مموه في صناعة البرهان، ولا يكون في صناعة الجدل، كذلك قد يكون قياس مموه في صناعة الجدل ويكون هاهنا ضميرا بالحقيقة، مثل قياس العلامة الذي في الشكل الثاني.
والمواضع المغلطة صنفان: أَلفاظ ومعان. فأَما الضمائر المغلطة من قبل الأَلفاظ فأَحد أَنواعها أَن تكون أَشكال الأَلفاظ واحدة وما تدل عليه الأَشكال من تلك الأُمور مختلفة. وهذا الموضع هو مبدأ لقياسات كثيرة مغلطة، مثل قولنا: إِن كان الرجاءُ هو المرجو، فالذهاب هو المذهوب به، وإِن كان الذهاب فعلا، فالرجاءُ فعل لا مفعول. فإِن هذه إِذا أَلفت على هذا الوجه حدث منها ضمير مظنون من غير أَن يكون في الحقيقة ضميراً. ومنها الذي يكون باتفاق الاسم واشتراكه مثل قولنا فيمن نسبه كلبي: هو من كلب، والكلب خسيس، فهو خسيس. وإِنما غلط في ذلك أَن اسم الكلب يقال على القبيلة وهذا الحيوان النابح.
وموضع آخر من الكلام المفرد إِذا قيل مؤلفا، ومن المؤلف إِذا قيل مفردا، لأَنه يظن أَنه شيء واحد. مثال ما يصدق مفردا ويكذب مؤلفا أَن يقال إِن الذي يعرف حروف المعجم كل واحد على حاله يعرف الشعر، لأَن الشعر مؤلف من حروف المعجم. ومن هذا الموضع، أَعني من الإِفراد والجمع، عرض ما عرض في مسائل القول في المواريث، فإِنه لما وضع لكل واحدٍ من الوارثين شريعة في حظه من المال كان ذلك صادقا، فلما جمع ذلك مع الغير لم يصدق. فإِنه لا يوجد مال له نصف وثلثان، فاختلف الفقهاء في ذلك. فهذه كلها مواضع سوفسطائية مشتركة للصنائع الثلاث، أَعني البرهان والجدل والخطابة.
وموضع خاص بالخطابة وهو أَن يُصير القائل السامعين بحيث يشتبه عليهم الأَمر حتى يقع في نفوسهم أَن المدعى عليه فعل ذلك الأَمر الذي ادعى به عليه من قبل أَن يثبت المدعى ذلك أَنه فعل ذلك، أَو يقع في نفوسهم أَن المدعي كاذب في دعواه من قبل أَن يعتذر عنها المدعي عليه. فالأَول يكون مما يقوله المدعي أَو يفعله، مثل أَن يعظم الذي ادعى به أَو يقلق منه ويظهر منه تأَذٍ وضجر.
والثاني مما يفعله المدعي عليه أَو يقوله، مثل أَن يبكي أَو يقوم فيلتطم ويضع التراب على رأسه أَو يقول أَقاويل يذهل بها السامع أَو الحاكم حتى يتشاغل فيسهو عما يعني به ولا يقدره قدره.