وموضع آخر عام وهو المعروف بموضع اللاحق، مثل قول القائل: فلان سارق لأَنه شرير، فإِنه يصدق أَن السارق شرير وليس ينعكس، أَعني أَن مكل شرير سارق.
وموضع آخر مما بالعرض، كما قيل إِن الجرذان أَعانتنا على عدونا، لأَنها قرضت أَوتار قسيهم.
وموضع آخر وهو أَن يجعل ما ليس بعلة للشيءِ علة له، وذلك بأَن يؤخذ الكائن مع الشيءِ أَو بعده سببا لوجود الشيء من غير أَن يكون سببا. فإِن الخطباء يستعملون ما بعد الشيء مكان ما من أَجله يكون الشيء ولا سيما في المشورة، كما لو قيل إِن تدبير أَبن أَبي عامر كان من أَجل شيء قصده، لأَن الفتنة بالأَندلس كانت بعده.
وموضع آخر وهو أَن يكون الشيء سبيله أَن يؤخذ بحال ما فيؤخذ بحال أُخرى، وذلك إِما من زمان أَو مكان أَو جهة أَو حال، أَو يكون مما سبيله أَن يؤخذ بحال ما فيؤخذ مطلقا. وهذا الموضع مشترك في التغليط لصناعة البرهان والجدل والخطابة؛ إِلا أَن مواده تختلف في هذه الصنائع الثلاث. فالتغليط به في الجدل يكون بالأُمور الكاذبة الممكنة، فإِنه إِذا أخذ فيها مطلقا ما ليس بمطلق بالفعل، فإِنه ممكن أَن يكون مطلقا. والتغليط به في صناعة البرهان يكون بالمعدومة، وهي الكاذبة الممتنعة. ومواده في الأُمور الخطبية هي الأُمور الواجبة. وإِنما كان هذا الموضع مقنعا لأَن كثيرا من الأَشياءِ يصدق جزئيا وكليا، فيظن بكل ما يصدق جزئيا أَنه يصدق كليا. وإِنما يوقف على كذب هذه المقدمات المطلقة في هذه الصنائع الثلاث، إِذا زيد في القول شريطة يظهر بها كذب المقدمة المطلقة، مثل أَن يقال فيمن هو عادل في الأَموال إِنه عادل على الإِطلاق. فإِذا أَظهر أَنه غير عادل في النكاح، اشترط في الأَموال، فتصح حينئذ المقدمة، ويظهر كذب إِطلاقها. وإِذا كان الشيء يصدق جملة على الشيءِ إِذا أخذ بحال ما، ويكذب إِذا أخذ بحال أُخرى، أَمكن إِذا أخذ مطلقا أَن نقنع به في المتقابلات معا، وتنشأ من ذلك أَقاويل مقبولة متضادة خطبية. مثال ذلك أَن يكون إِنسان ما أَصاب أَمرا أَوجب عليه حدا من الحدود الشرعية وهو مريض، فإِنه يمكن أَن يقال فيه إِنه واجب وأَن يقام عليه الحد وإِنه ليس بواجب؛ وذلك أَن من جهة ما جني، فقد وجب عليه الحد؛ ومن جهة ما هو مريض، فليس واجبا عليه. ومن هذا الموضع يصير الشيءُ القليل الخسة خسيسا بإِطلاق، ويؤخذ الشيء القليل الشرف على أَنه شريف بإِطلاق. ويشبه أَن يكون هذا الموضع إِنما هو سوفسطائي بالإِضافة إِلى صناعة البرهان، وأَما بالإِضافة إِلى صناعة الجدل وهذه الصناعة، فإِنه جزء منهما. فإِنه من المقنع أَنه إِذا كان الذي ليس موجوداً بإِطلاق ليس موجودا بحال ما، فمن الواجب أَن يكون ما هو موجود بحال ما موجوداً على الإِطلاق. وقد ذكر هذا الموضع في المقالة الثانية من كتاب الجدل على أَنه جزء من تلك الصناعة.
فقد قيل في المواضع التي تعمل منها الضمائر الحقيقية والضمائر المموهة.
وقد بقي أَن نقول في المناقضات التي تتلقى بها الضمائر وهي التي يستعملها السامع؛ فإِن التي سلف فيها القول إِنما يستعملها المبتدئ بالكلام، فنقول: