فلنقل أَولا في السنن فنقول إِن السنن لما كانت منها عامة ومنها مكتوبة، فقد يجب إِن كانت السنن المكتوبة مضادة للشيءِ الذي يَقصد تثبيتَه الشاكي أَو المعتذر أَن يحتج بالسنة العامة الموافقة له، أَعني المضادة للسنة المكتوبة، ويقويها، ويزيف السنة المكتوبة. فأَحد المواضع التي ذكر مما تزيف به السنة المكتوبة هو أَن يقول: إِن الواجب هو الأَخذ بالسنن الغير المكتوبة، لأَن الإِنسان إِذا اقتصر على ما توجبه السنة المكتوبة لم يكن محسنا ولا حليما ولا صفوحا، إِذ كان الإِنسان إِنما يوصف بهذه الأَشياءِ إِذا اقتدى بالسنة العامة على ما تبين، وبالجملة فإِنما يتطرق المدح والإِكرام من قبل السنن الغير المكتوبة، فاعل الواجب لا يمدح. ولذلك لا يسمى من يعطي القدر الواجب من المال في السنة المكتوبة سخيا.
وموضع ثان وهو أَن يقول: إِن السنن المكتوبة إِنما يقتصر عليها العامة من الناس الذين لا روية عندهم، وذلك أَنها أُمور مفروغ منها، فأَما الاقتداءُ بالسنن الغير المكتوبة وتقديرها فهو لذوي الروية والخواص من الناس.
وموضع ثالث: وهو أَن السنن المكتوبة شاقة إِذ كانت تقصر الإِنسان على أَشياء محدودة، والسنن العامة ملائمة لطبائع الإِنسان وهو أَهم.
وموضع رابع: وهو أَن السنن المكتوبة كثيرا ما يكون تركها أَنفع وأَفضل وأَزيد في الخير، إِذ كان الشيءُ المحدود لا يلائم كل إِنسان ولا في كل حين. وأَما السنن الغير المكتوبة فقد تقدر تقديرا يلائم كل إِنسان وفي كل زمان.
وموضع خامس وهو: أَن السنة الغير المكتوبة أَبدية غير متغيرة لأَنها في طبيعة الناس، والسنن المكتوبة متبدلة ومتغيرة. وحكى عن امرأَة مشهورة عندهم أَنها اعتذرت عن رجل دفن عندهم على غير السنة المكتوبة بأَن قالت: لم أَكن لأَدفنه على سنة تكون اليوم ولا تكون غدا، بل على السنة التي لا تبيد أَبداً.
وموضع سادس وهو أَن السنة المكتوبة مظنونة، إِذ كانت مقبولة من الغير، وإِنما هي معروفة بالطبع. ومن القول النافع في ذلك أَن نقول: أَن نقول: إِن السنة العامة هي التي يفعل بها الحاكم أَفعالا مختلفة بحسب النافع لشخص شخص ووقت وقت، والحاكم هو بمنزلة المخلص للفضة من الخبث، ولذلك قد يجب على الحاكم الفاضل أَلا يقتصر على السنة المكتوبة فقط، بل يستعمل السنتين معا حتى يتخلص له الحق في ذلك، ويتقرر لديه القول الخاص بالقضية التي يحكم فيها. ولذلك متى حكم في شيء، وكانت السنة المكتوبة ضد الغير المكتوبة، أَو كانت فيه سنتان متضادتان، فقد يجب على الحاكم أَن يستعمل السنة القديمة أَحيانا، أَعني الغير المكتوبة، في موضع، ويطرحها في موضع آخر؛ وكذلك الحال في السنة المكتوبة. فإِن بهذا الوجه يسقط التعارض الذي بينهما في الظاهر ويصح الجمع. وهذا الذي قاله بيّن من فعل الفقهاءِ - وهذا عندنا - في السنن المكتوبة المتضادة.
قال: ومتى أَشكل عليه وجه الجمع، فقد يجب عليه أَن يتوقف ولا ينفذ إِحدى السنتين، بل يرجئ الحكم حتى يتبين له موضع الشك والشبهة بين السنتين، إِما العامة النافعة وإِما المكتوبة الواجبة.
فهذا جملة ما قيل هاهنا في دفع السنن المكتوبة إِذا كانت مضادة للشيءِ الذي يقصد تثبيته.
وأَما إِذا كانت السنة المكتوبة موافقة للأَمر المقصود تثبيته، والعامة مضادة، فأَحد ما تزيف به السنة الغير المكتوبة المضادة أَن يقال: إِن السنة العامة متبدلة الموضوع ومتبدلة الأَوقات، فهي بالجملة غير غير محدودة، بل تحتاج إِلى استنباط وتحديد، وأَما المكتوبة فهي مفروغ منها. فإِذا كان المضاد في السنة الغير المكتوبة متوهما وغير معلوم بعد، وكان الموافق لنا في السنة المكتوبة مصرحا به، فقد ينبغي أَن يعتقد أَنه ليس يجب أَن كون الحكم يتعدى به السنة المكتوبة.
وموضع آخر تزيف به السنة الغير المكتوبة: وهو أَن السنة الغير المكتوبة تقتضي حكما عاما مثل الإِحسان إِلى من أَحسن إِليك، والمكتوبة تقتضي حكما خاصا وهو مقدار ذلك الإِحسان ووقته. والعام الكلي ليس يفعله أَحد، وإِنما يفعل الجزئي. والذي يفعل، هو الذي يجب أَن يمتثل.
وموضع آخر يقوي السنة المكتوبة: وهو أَن الوضع للسنة المكتوبة إِن كان واجبا، فاستعمالها واجب؛ وإِلا فأَيّ فائدة في وضع شيء لا يستعمل.