للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فأَما عن ماذا يكون الهم، ومَن يهتم، وبمن يهتم، فإِنا مخبرون ذلك. فليكن الهم حزنا ما يلحق من قبل شر مفسد أَو محزن يعرض للمرءِ بلا استيجاب، وذلك إِذا كان الشر يتوقع أَن يحدث عليه أَو على أَحد ممن يتصل به وكان قريب التوقع. وأَعني بالمفسدات التي تغير البدن، وبالمحزنات التي تفعل الأَذى النفساني. وإِذا كان حد الاهتمام هو هذا، فهو بين أَن غير المهتم يكون بهذه الحال التي أَصف، وهو أَن يظن أَنه ليس شيءٌ من الشرور واقعاً لا به ولا بأَحد ممن هو بسببه، أَعني مثل هذا الشر الموصوف في الحد أَو شبهه أَو قريبا منه. فإِن المتهم هو الذي يتوقع نزول مثل هذا الشر به مع رجاء للخلاص منه. ولذلك لا يهتم الذين قد نزلت بهم الشرور العظيمة مثل الذين عطبوا، ولا الذين يظنون أَنهم سعداء. وذلك أَن الذين يظنون أَنهم سعداء، يظنون أَنهم لا ينالهم شيءٌ من الشر، إِذ كانوا يرون أَن ذلك من السعادة، أَعني أَلا ينالهم شر. ومن هؤلاءِ أَيضا، أَعني الذين لا يهتمون، الذين يظنون أَنهم لا يأْلمون لا من قبل أَبدانهم ولا من قبل نفوسهم، وذلك من قبل أَنهم قد لقوا شرورا فتخلصوا منها، وإِما من قبل أَنهم مشايخ قد طالت مزاولتهم للشرور، وإِما من قبل كثرة التجربة، وإِما لمكان عادة جرت لهم فتطيب نفوسهم كطيب نفوس المقبلين السعداءِ، وإِما لمكان شهرتهم في الناس وذلك أَن المشهورين يرون أَن الشرور بعيدة عنهم لمكان علو أَقدارهم وأَن الناس كلهم معينون لهم. وقد يعرض هذا الظن لمكان التأَدب بالصنائع والأَشياءِ التي تدفع بها الشرور. ومن هؤلاءِ القوم الذين ظنونهم حسنة جميلة لمكان وجود الآباء لهم والأَبناء والنساء بالأَحوال الجميلة، أَعني الذين لم تثكلهم ولا أَحزنتهم الأَيام في واحد منهم. وبالجملة: الذين عرض لهم في هذه الأَصناف الثلاثة جودة الاتفاق. فإِن الشرور المتصلة بهؤلاءِ تصير الإِنسان ضعيف النفس مهتما بأَدنى شيءٍ يخافه. ومن هؤلاءِ: الذين تعتريهم وتوجد فيهم الانفعالات التي تخص الشجاعة، مثل الغضب وشدة القلب، فإِن هؤلاءِ غيرُ ذوي فكرة فيما يتوقع. ومن هذا الصنف أَيضا الناس الذين من أَخلاقهم الشتم والاستهانة، فإِن هؤلاءِ أَيضا لا يهتمون، لأَنهم لا يتوهمون أَنه يقع بهم شر، وذلك لنقص فطرهم. والناس الذين يهتمون هم خائفون جدا جدا لا يهتمون بغيرهم، لأَن المكروبين من الخوف لا يهتمون بآخرين، لأَنهم مشغولون بالأَلم الخاص الواقع بهم. والذين يظنون بأَحد أَنه حقير خامل فليس يهتمون به، لأَنهم يرونه أَهلا لوقوع الشر به، أَو لا يرون أَن وقوع الشر به شر. ولذلك كما يقول أَرسطو: من ظن أَنه ليس في العالم أَحد، فقد يظن الناس جميعا مستوجبين للشر. وبالجملة فإِنما يهتم المرءُ إِذا كان بهذه الحال التي وصفنا، أَعني إِذا كان يتوهم ويتخيل أَن شيئا من أَضداد هذه الأَشياء التي يتخيلها الذي لا يهتم توجد فيه أَو فيمن يتصل به.

فهذا جملة ما قاله في وصف أَحوال الذين يهتمون.

قال: وأَما أَي أَشياء هي التي تفعل الهم، فمعلوم مما قيل في حد الاهتمام. وذلك أَن جميع ما كان من المفسدات، أَعني المغيرات للبدن، وما كان من المحزنات أَعني المغيرات للنفس، فكلها فاعلة للاهتمام، وبخاصة ما كان من المفسدات القاتلة، وما كان من أَنواع الشرور التي اشتمل عليها الحد بأَشد ما يكون.

قال: ومن المفسدات المؤديات إِلى الموت: أَوجاع البدن والجهد والكبر والسقم والحاجة إِلى القوت.

قال: وعدم الإِخوان أَو قلتهم، لما كان من سوءِ الجد، فقد يكون ذلك من الشرور المفسدة التي تهم.

قال: ومن فاعلات الاهتمام الأَحوال التي جرت العادة، إِذا كانت بالناس، أَن تفعل الاهتمام بهم، مثل الأَحوال التي يكون عليها ذوو السقم والزمانة من قبح المنظر والقعود عن الحركة والتصرف. ومما يفعل الاهتمام أَن يصير المرءُ إِلى الشر من حيث أَمل أَن ينال الخير، أَو أَن يصير إِلى أَمر كبير: إِما يكون الذي يصير إِليه يصيب خيرا فلا يكون له شيءٌ من الخير فيه أَلبتة، أَو أَن يكون يصير إِلى خير في الوقت الذي يفوت الاستمتاع بذلك الخير، مثل اليسار في وقت الهرم.

قال: فهذه جملة الأُمور التي تفعل الهم.

<<  <   >  >>