للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال: وأَما بمَنْ يهتم، أَعني من الغير، إِذا توقع نزول الشر به أَو يرثى له إِذا نزل به ويرحم، فإِن هذا هو الفرق بين الاهتمام والرحمة. فالمعارف ومن هم بالإِنسان بسبب، إِن لم يكونوا في غاية القرب من الإِنسان حتى يكون الشر الواقع بهم هو شر واقع بالإِنسان مثل الولد والوالد.

قال: ومن هنا قيل إِن فلانا لرجل مشهور عندهم لما جُلد ابنه وأَشفى من ذلك على الموت لم تدمع عينه ولا حزن. ولما رأَى صديقا له يَسئل من فاقة جزع واهتم.

قال: وإِنما يكون الهم بالغير إِذا توقع حدوث الشر به، أَو الرحمة له إِذا وقع به، لأَن توقع حدوث الشر بالإِنسان نفسه أَو ممن يتنزل منزلة نفسه أَو وقوعه به هو شدة نزلت بالإِنسان، أَو يخاف نزولها. ونزول الشدائد بالإِنسان أَو تخوف نزولها به أَو بمن هو بمنزلة نفسه ومسلاة عن الاهتمام بغيره أَو الرحمة له. وإِذا نزل الشر بالإِنسان فلا يقال إِنه يرحم نفسه، ولا إِذا توقع نزوله لم يقل فيه إِنه مهتم ولكن خائف.

قال: ومِن الذين يهتم بهم هماً أَكثر: الصنف من الناس الذين هم أَشباه الإِنسان، أَعني في الهمم والأَخلاق والمراتب والأَحساب، إِذا كانت الشدائد قريبة الوقوع بهم.

قال: وبالجملة كلما يخافه الإِنسان على نفسه فهو يهتم به إِذا تخوفه على الخير. وذلك إِذا تخيل أَن تلك الآلام والشرور قريبة الوقوع، لأَن الشرور المتخيلة إِنما تكون من أَسباب الهم إِذا تخيلت بهذه الجهة. فأَما الشرور التي يتخيل وقوعها فيما سلف، مثل السنين الكثيرة، فليس يهتم بها ولا تخاف. وذلك أَنها ليست مستقبلة فتتوقع. ولا الذكر أَيضا مما يفعل الخوف والاهتمام. وكذلك الممتنعة الوجود لا تخاف أَلبتة ولا يهتم بها.

قال: وقد يهتم الإِنسان للناس الذين يخيلون بأَصواتهم وهيئاتهم المحسوسة أَنه قد نزل بهم شر أَو قد قارب أَن ينزل لأَنه بما يخيلون من ذلك يجعلون الشر بحيث يتخيل أَنه قريب ويجعلونه نصب العين أَو كأَنه قد وقع. لأَن الهم إِنما يكون في الأَشياءِ التي قد وقعت الآن أَو يتوقع من قرب نزولها. وظهور العلامات والدلالات التي تدل على الشرور، مثل الأَحوال التي ذكرناها من أَحوال الخائفين، إِنما تفعل الهم إِذا دلت عليه بهذه الحال، أَعني أَنه قد حدث أَو قارب حدوثه، وبخاصة إِذا ظنوا أَن أُولئك الذين ظهرت علامات الشر عليهم هالكون، ولا سيما إِذا كان أُولئك الذين ظن بهم الهلاك أَفاضل، وأَكثر من ذلك إِن كان هلاكهم في الوقت الذي الحاجة إِليهم أَكثر أَو الرجاء فيهم أَمكن مثل اَن يعتبطوا أَو يموتوا شبابا. فهذه كلها تفعل الاهتمام أَكثر من غيرها، أَعني هلاك الفضائل بهلاك الفاضلين الذين لا يستحقون ذلك في الوقت الذي الحاجة إِليهم فيه شديدة، من قبل أَنه إِذا وقعت أَمثال هذه الأَشياء أَو دلت العلامات والدلائل على وقوعها، ظن أَن الشر قريب حتى كأَنه يرى نصب العين.

قال: وقد يوجد الاهتمام والجزع انفعالات مضادة، أَعني مبطلة، ولا سيما الحزن الذي يكون على الذين ينالون خيرا بلا استئهال، وهو الذي يسمى نفاسة. لأَن الاهتمام هو الحزن على الشر الذي ينال من لا يستأهله. وهذا الانفعال الآخر هو خلق شريف، أَعني الحزن على من نال خيرا بلا استئهال، وذلك أَن الذين يصيرون إِلى غير ما يستأهلونه من خير أَو شر، فينبغي أَن يحزن لهم جدا جدا. والذين يصيرون إِلى الشر من الأَسباب المعروفة والطرق المعتادة التي بها يفضي الإِنسان ويحكم على مصيرهم إِليها، فقد يرى الناس أَنهم أَهل لذلك. وأَما الذين يصيرون إِلى هذه الأَشياء من طرق غير معروفة فينبغي أَن يكونوا في الوسط من أُولئك، أَعني أَلا يعتقد فيما أَصابه من الشر أَنه كان باستئهال أَو بغير استئهال، بل ينبغي أَن يفوض أَمرهم إِلى الله. لأَن ما نال الإِنسان من الجور والشر من طرقه المعروفة، فسببه الجور والشرارة التي في ذلك الإِنسان، وأَما ما ناله من ذلك من غير طرقه المعروفة، فإِنا نكل علم ذلك إِلى الله عز وجل.

<<  <   >  >>