والسنن التي توقف على ما هو جور وعلى ما ليس بجور منها خاصة بطائفة من أَهل المدينة، ومنها ما يعم جميع أَهل المدينة. وهذان الصنفان من السنن مكتوبة، ومنها غير مكتوبة، وأَعني بغير المكتوبة تلك التي هي في طبيعة الجميع وهي التي يرى الكل فيها بطبعه أَنها عدل أَو جور، وإِن لم يكن بين واحدٍ واحدٍ منهم في ذلك اتفاق ولا تعاهد. وهذه أَيضا قد تسمى عامة بهذه الجهة. وهذه السنن ليس يعلم متى وضعت ولا من وضعها. وهي كثيراً ما تضاد المكتوبة. فيقنع بها، فيما اعتقد فيه أَنه جور بحسب المكتوبة، أَنه ليس بجور. كما حكى أَرسطو عن رجل مشهور عندهم لما أخبر عنه بأَنه دفن على غير سنة الدفن الخاصة ببلده، اعتذر عنه في ذلك بأَنه دفن على السنة العامة الموجودة في الطبيعة، وإِن دفنه كان عدلا لا جورا. وأَما السنن المكتوبة الخاصة بقوم قوم فهي مثل ما يرى بعض الناس أَنه لا ينبغي أَن تقتل ذوات النفوس كالحيوانات وأَنه جور. فإِن هذا ليس واجبا عند الجميع ولا بالطبع. وإِذا كانت السنن الموقفة على العدل وما ليس بعدل: منها ما هي نحو العامة والكل من أَجل المدينة، ومنها ما هي نحو واحد واحد، أَعني أَن منها سننا توقف على ما ينبغي أَن يفعل في أَمر العامة وأَلا يفعل، وسننا توقف على هذا المعنى في أَمر واحد واحد، فبيّن أَن أَصناف الظلم والواجب، أَعني ما ليس بظلم، تنحصر في هذين الصنفين، أَعني أَن الظلم وفعل الواجب: إِما أَن يكون نحو واحد واحد، وإِما أَن يكون نحو الجميع. مثال ذلك أَن الذي يزني أَو يضرب هو ظلم نحو واحد محدود، والذي يمتنع من الدخول في الشرطة، وهي عند أَرسطو حراسة أَهل المدينة بعضهم من بعض، فقد يظلم ظلما عاما. وكذلك الذي يمتنع من الحراسة، وهو الذي يحفظ المدينة مما يرد عليها من خارج ولا يتعدى في حفظه حدود المدينة، أَو الذي يمتنع من القيادة وهو الذي يسير بجند المدينة وحماتهم إِلى قوم غرباء للغلبة على نفوسهم أَو على أَموالهم أَو على مدينتهم. وكل واحد من هؤلاءِ متى لم يفعل فعله، لحق المدينة منه جور عام وضرر شامل. فهذه القسمة واقعة في جميع أَصناف الظلم، أَعني أَن منه ما هو عام، ومنه ما هو نحو واحد واحد.
وإِذ قد وصفنا أَصناف الظلم، فقد ينبغي أَن نصف ما هي الظلامة، أَعني المعنى الذي إِذا وقع بالإِنسان وانفعل له سمى مظلوما، فنقول: إِن الظلامة هي أَن يمس إِنسانا شيء من الجور من إِنسان آخر بمشيئته واختياره. وذلك أَن الجور، كما قد قيل، إِنما هو إِضرار يكون بالمشيئة. فالظلامة هي أَن يستضر آخر بمشيئة الجائر.
وأَصناف الأَشياء الضارة إِحصاؤها في هذا الموضع واجب، إِلا أَنه قد ذكرت فيما تقدم، وذلك في باب المشورة، لأَنه لما ذكرت النافعات هنالك تبينت أَضدادها؛ وكذلك هي أَيضا مذكورة في باب الذم. وكذلك قد تقدم القول في أَصناف الأَشياء التي تكون عن طوع. والشكايات - بالجملة - العامة والخاصة تنحصر في أَربعة أَصناف: أَحدها ما يكون بلا علم من الفاعل وهو الكائن عن الاتفاق؛ والثاني ما يكون مع علم بلا مشيئة وهو الإِكراه؛ والثالث ما يكون عن اختيار وروية؛ والرابع ما يكون عن انفعال من الانفعالات، وأَكثر ما يكون ذلك عن الغضب. فأَما الغضب وما يكون عنه فسيقال فيما بعد. وأَما التي تكون عن تقدم الاختيار والروية فقد قيل فيها فيما تقدم. وليس يحتاج الشاكي إِلى معرفة أَصناف الظلامات والأَفعال التي هي جور أَو إِلى معرفة الشرائط التي يكون بها الفعل ظلما وجوراً بل وقد يحتاج إِليه المتنصل والمعتذر، لأَنه كثيرا ما يعترف المشتكي به بوجود الذي ادعى عليه، إِلا أَنه يجحد الشرط الذي به يكون ذلك الفعل جوراً؛ وذلك مثل أَن يعترف بأَنه أَخذ، لا بأَنه سرق؛ وبأَنه سب، لا بأَنه افترى؛ وبأَنه نكح، لا بأَنه زنى. ولذلك ينبغي للشاكي والمتنصل أَن يعرف ما السرقة وما الافتراءُ وما الزنا وذلك بحسب الشريعة العامة والخاصة بالقوم الذي هو منهم؛ فإِنه بمعرفة هذه الأَشياء يمكن الشاكي أَن يثبت أَن الفعل جور وظلم، والمتنصل أَنه ليس بجور. فإِن التنازع إِنما هو في أَنه ظالم أَو غير ظالم. والظلم بالحقيقة الذي لا يقبل المعذرة إِنما هو الظلم الذي يكون عن تقدم الروّية والاختيار.