قال: والذين جاروا كثيرا على الناس قد يستلذ الجور عليهم لا لمنفعة، ويظن به أَنه قريب من أَلا يكون الجور عليهم جوراً، وذلك مثل أَن يضرب أَحدٌ من قد تعود شتيمة الناس ونقصهم، فيشجه أَو يجرحه. والذين أَيضا أَتوا أَمرا قبيحا فاحشا عند الناس إِما بعمد وإِما بغير عمد، فإِن الجور عليهم لذيذ حسن عند الناس، والفاعل لذلك يرى غير جائر. والذين يسرون أَيضا بأَفعال هؤلاءِ أَو هم أَصدقاؤهم ويتعجبون من أَفعالهم. وبالجملة من أَتى سوءاً يستلذ الناس الجور عليهم، وكذلك بالجملة الذين يتعلقون بمن فعل سوءاً أَو يمشون معه. والصابرون من الناس المغضون بالحقيقة يستلذ الناس الجور على من جار عليهم. والذين يبتدئون بالظلم، فإِن الظلم الواقع بهم قريب من أَلا يكون جوراً، ولذلك قيل: البادئ أَظلم، وذلك مثل أَن يقتل إِنسان من قصده بالقتل. والقوم الذين يصادفون على شرف من الهلاك قد يبادر الناس للجور عليهم، لأَنه يخفى أَنهم كانوا سبب ذلك الجور. وقد يستلذ الجور على الطائفة التي تجور على من أَشرف على الهلاك، وبخاصة إِذا كانوا أَقوياء على دفعهم فتظالموا لهم وتعافوهم وأَبوا أَن يؤذوهم. ويعلم مع هذا أَنهم لو لم يصيروا إِلى هذه الحال بتظالمهم وتعافيهم عن الطائفة التي أَصارتهم إِلى هذه الحالة من الإِشراف على الهلاك لما تجرأَت الطائفة الأَخيرة أَن تجور عليهم، كما عرض، فيما حكاه، في جزيرة معلومة عندهم، وذلك أَن قوما سبوهم غصبا وجورا لأَنهم صادفوهم على شرف من الهلاك من قوم آخرين، وقد كانوا يقدرون أَن يدفعوا عن أَنفسهم ظلم الذين صيروهم بهذه الحال فلم يفعلوا ولكن تظالموا لهم وعفوا عنهم حتى صاروا من أَجل ذلك إِلى حالة أَمكن فيها هؤلاءِ الآخرين أَن يسبوهم جورا وغصبا.
فهذه هي الأَشياءُ التي إِذا كانت في الإِنسان حركت الجائر إِلى الجور عليه، وهم المظلومون بالطبع. وأَما الأَشياءُ التي يسهل الجور فيها فيجور فيها الكل والأَكثر من الناس فهي الأَشياءُ التي يكون فيها الصفح هي الأُمور اليسيرة الحقيرة. والأَشياءُ التي تستتر فتخفى هي الأَشياءُ التي تفسد أَعيانها سريعا مثل الطعام، أَو الأَشياءُ التي يسهل تغير أَشكالها أَو أَلوانها أَو التي تغير بالمزاج والخلط.
والأَشياءُ بالجملة التي يمكن أَن تغير أَشكالها في أَمكنة كثيرة منها هي أَسهل إِخفاء ولا سيما إِذا كان التغيير منها في أَمكنة صغار. فإِنه كلما كان إِمكان التغيير في الشيءِ أَكثر وأَسهل كان إِخفاؤه أَسهل. وكذلك تخفى الأُمور التي يعلم أَنه قد كان عند الجائر أَشباهها أَو ما لا يشبهها فيدخلها في جملة ما يشبهها أَو يغيرها إِلى التي لا تشبهها من التي تعلم أَنها عنده. ولذلك يتقدم كثير ممن يريد أَن يظلم فيقتني نوع الشيءِ الذي فيه يريد أَن يظلم أَو نوع الشيء الذي يريد أَن يغيره إِليه. وكل ما يستحي المظلوم من ذكره فهو مما يخفى مثل الجور في النساءِ، فإِن إِظهاره فضيحة وعار على المجور عليهم في أَولادهم.
فهذه الأَشياءُ وما أَشبهها هي الأَشياءُ التي يسهل فيها الجور، إِذ يكون فيها الصفح أَو الاستتار. فقد تبين من هذا القول الأَشياءُ التي من أَجلها يجور الجائر، والأَحوال التي إِذا كانت في الإِنسان طمع أَهل الجور فيه.
وبقي الصنف الثالث من الأَشياءِ الثلاثة التي منها تؤخذ المقدمات التي يتبين بها أَن الجائر قد جار، وهي معرفة الأَفعال التي إِذا تبين أَنهم فعلوها، فقد تبين أَنهم قد جاروا، والأَحوال التي إِذا كانت في الفعل كان جورا. وينبغي أَن نقدم أَولا أَصناف الظلم وأَصناف الواجب، أَعني ما ليس بظلم. وقد قيل فيما سلف أَن أَصناف الظلم تكون نحو شيئين وهما إِما اللذيذ، وإِما النافع، وإِنها توجد في الذين توجد فيهم على جهتين: إِما لدفع مضرة، وإِما لاجتلاب منفعة.