وكذلك يعرض للناس الذين لا يتحفظ من شرهم الصحيحي المعاملة الموثوق بهم المنصفين، أَعني أَن يطمع في الجور عليهم. وهؤلاءِ قد يمكن أَن تجهل منهم هذه الأَحوال فلا يتصدى أَحد للجور عليهم. وذوو الكسل والتواني يطمع في الجور عليهم. وكذلك الجاهلون بما هو جور وعدل، وبالجملة: بما يحكم به الحاكم، لأَن استخراج الحقوق عند الحكام إِنما هو للرجل البصير النافذ، أَعني العارف بما يحكم به الحكام. ومن الذين يجار عليهم الصنف من الناس الذين يغلب عليهم الحياءُ، لأَنه ليس عندهم صخب ولا مغالطة في طلب منافعهم. والذين أَيضا قد ظلمهم ناس كثيرون يجار عليهم لأَنهم يلفون قد ذلت نفوسهم وأَمن شرهم. والذين ليس تخرج لهم الأَحكام إِذا حضروا مجالس الحكام والسلاطين، إِذ ليس لهم قدر، يجار عليهم. لأَن هؤلاءِ كما قيل منحون أَبداً. والذين أَيضا يرومون الأَخذ مرارا كثيرة فلا يأْخذون شيئا يجار عليهم. لأَن كلا الصنفين مزدرى به لا يتحفظ منه إِلا على الإِطلاق وإِما في وقت ما. لأَن هؤلاءِ القوم مذمومون، والمذمومون لا يتحفظ منهم، لأَنه لا ناصر لهم. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَن هؤلاءِ لا ينفذون إِراداتهم ولا آراءهم، لأَنهم يخافون الكلام ولا يستطيعون أَن يأْذنوا أَو يمنعوا. وذلك أَنه لا يخلوا واحد من هؤلاءِ أَن يكون متقدما عليه في المجلس أَو مستهانا به أَو منفورا عنه. والذين عندهم لقوم ترة قديمة أَو سوءُ بلاء إِما من قبل أَجدادهم أَو من قبل آبائهم أَو من قبل أَنفسهم أَو من قبل إِخوانهم مهيئون أَن يجور عليهم أُولئك القوم جورا أَكثر من الجور المتقدم. وكذلك إِن كانوا تهاونوا بهم أَو بآبائهم أَو بمن يعنون به. ولذلك يقال في المثل: إِن الشر اليسير يستثير الكثير، وإِن الشر قد تبديه صغاره. والذين تقدمت منهم ترة قديمة: إِن كانوا أَصدقاء وتقدمت منهم ترة يسيرة، فإِن القول فيهم واستماعه يكون سهلا، لا يقع من المقول فيه موقع مكروه. وإِن كانت الترة كبيرة، كان القول فيهم أَو استماعه لذيذا عند الذين لهم الترة عندهم. وإِن كانوا أَعداء، كان القول فيهم واستماعه مع تهاون بهم وأَلا يرى لهم قدر. فالمستمعون إِما أَلا يقولوا فيه شيئا، وإِما أَن ينكروا على القائلين، وإِما أَن يمالئوا على القول ويزيدوا فيه. وهنا صنف من الناس يجار عليهم وينالون بالضر والانتقام، لا لمنفعة، لكن لمكان الاستلذاذ بذلك. وهؤلاءِ هم الغرباءُ: إِما في المدينة، وإِما في الجنس، وإِما في الشيم، وإِما في اللسان، وإِما في المللة. فإِن الإِنسان يستلذ الجور على الغرباءِ بأَحد هذه الخمسة الأَنحاء. والجور الواقع بهؤلاءِ هو التهاون. فإِن الجور يكون في المال والكرامة والسلامة. وأَهل الغفلة يجار عليهم أَيضا. وإِنما يستلذ الجور على الغرباءِ لأَنهم لا يعرفون ما هو إِهانة واستخفاف عند أَهل تلك المدينة، أَو عند ذلك الجنس وكذلك الحال في أَهل تلك الغفلة. ومن الذين يستلذ الجور عليهم الصنف من الناس الذين يقلقون بالأَشياءِ اليسيرة ويصيبهم منها كرب، وذلك بيّن في أَفعال أَهل اللعب في هذا الصنف من الناس.