وقد يدل على إِن الأُمور التي من خارج ليس لها كبير جدوى في هذه الصناعة إِن الذي يروم إِن يثبت شيئا بين يدي الحكام فهو إِما إِن يثبت إِن الشيء موجود أو غير موجود فقط، أعني أنه كان أو لم يكن، وذلك إِذا كان قد حدد صاحب الشريعة إِن ذلك الشيءَ الذي فيه الشكوى عظيم أو يسير، وأنه عدل أو جور، وإِما إِن يثبت الأَمرين، وذلك إِذا لم تحدد الشريعة ذلك الشيء الذي فيه الكلام فأما استعمال الانفعالات في تثبيت إِن الأَمر عدل أو جور فغير ممكن، وذلك إِن الانفعال بالرحمة أو البغضة إِنما يكون لشيءٍ جزئي، والعدل والجور أُمور كلية. وأما استعمالها في إِن الأَمر كان أو لم يكن فله في ذلك تأْثير لكنه ليس يوجب إِن الأَمر كان أو لم يكن بالذات، بل إِنما يُميل الحكام إِلى إِن يقولوا إِنه صدَق فيما ادعى أو لم يصدق، من غير إِن يحدث للحاكم أو المناظر بذلك تصديق زائدا بالشيء الذي فيه الكلام.
قال: وقد يجب إِن تكون السنن هي التي تحدد إِن الأَمر جور أو عدل، وتفوض إِن الأَمر وجد من هذا الشخص أو لم يوجد إِلى الحكام. وبالجملة: فتفوض إِليهم الأُمور اليسيرة. وذلك لسببين: أما أولا فإِنه قل ما يوجد حاكم يقدر إِن يميز الأُمور على كنهها، فيضع إِن هذا الأَمر جور وهذا عدل في الأَقل من الزمان. وأكثر الحكام الموجودين في المدن في أكثر الزمان ليس لهم هذه القدرة.
وأما ثانيا فلأَن الوقوف على إِن الشيء عدل أو جور يحتاج واضع السنن فيه إِلى زمان طويل، وذلك لا يمكن في الزمان اليسير الذي يقع فيه التناظر في الشيء بين يدي الحكام.
فلمكان هذين الأَمرين يصعب إِن يُفَوض إِلى الحكام إِن هذا الأَمر عدل أو جور أو نافع أو ضار، بل إِنما يُفَوض إِليهم إِن الأَمر وقع من هذا الشخص أو لم يقع، وذلك لبيانه، ولأَنه أمر لا يمكن إِن يضعه صاحب السنة.
قال: وإِذا كان الأَمر هكذا، فمعلوم إِن هؤلاءِ الذين تكلموا في الأَشياءِ التي من خارج، أني في صدور الخطب وفي الاقتصاص وفي الانفعالات وما يجري هذا المجرى، لم يتكلموا في شيءٍ يجري من الخطابة مجرى الجزء، وإِنما تكلموا في أشياء تجري مجرى اللواحق. فأما الأَشياءُ التي تكون بها التصدبقات الصناعية - وهي أول ذلك الضمائر - فلم يتكلموا فيها بشيءٍ.
ومن أجل أنا نحن نرى إِن الضمائر عمدة هذه الصناعة، نعتقد إِن المخاطبة التي تكون على جهة التشاجر والتنازع بين يدي الحكام والمخاطبة التي تكون على جهة الإِرشاد والتعليم هي لصناعة واحدة، وهي هذه الصناعة، وأما هؤُلاءِ الذين تكلموا في هذا الجزء من الخطابة فقد يلزمهم ألا ينسبوا من الكلام في هذه الصناعة إِلى هذه الصناعة إِلا ما كان منه على جهة التنازع والتشاجر وليس في كل الأَصناف التي يتشاجر فيها، بل في الصنف الخسيس منها، وهي الأًمور السوقية التي يتشاجر فيها بين يدي الحكام. وأما التشاجر الذي يكون في وضع السنن فليس ينتفع فيه بالجزءِ الذي تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة. إِذ كان هؤلاءِ لم يتكلموا في الضمائر بشيءٍ. لكن لما تكلموا في الأَشياءِ التي بها يخسس الشيء أو يفخم، ظنوا أنهم قد تكلموا في جميع الأَشياءِ التي تستعمل فيها الأَقاويل الخطبية. واستعمال الأَشياء التي من خارج في الخطابة، دون استعمال الأَشياء التي هي من نفس الأَقاويل الخطبية، فعل خسيس.