قال: وإِنما يكون المدح على الحقيقة بالأَفعال التي تكون عن المشيئة والاختيار، فإِن الفعل الذي يكون بالمشيئة والاختيار هو الفعل الفاضل. والذي يمدح بالأَشياءِ التي تكون بالاتفاق أَو بالعرض من أَجل أَن لها إِذا اقترنت بالفضائل تزيينا لها وتفخيما بمنزلة الحسب المقترن إِلى الفضيلة وجودة البخت المقترن بأَفعال الفضائل. وإِنما يدخل في المدح الأَفعال التي تكون باتفاق والأَعراض التي تقترن بالعرض مع الأَفعال التي تكون بالمشيئة متى تكررت مرارا كثيرة على صفة واحدة حتى أَوهمت أَنها بالذات، وذلك أَنه إِذا عرض لها ذلك ظن بها أَنها علامة للفضيلة، مثل أَن يخجل الإِنسان مرارا كثيرة بالاتفاق في مواضع يمدح الخجل فيها.
وإِنما دخلت هذه الأَشياءُ في المديح لأن المديح هو قول يصف عظم الفضيلة، وهذه الأَشياءُ هي مما تعظم بها الفضيلة. وإِذا استعملت هذه الأَشياءُ في المديح، فينبغي أَن تستعمل على أَنها حدثت عن الروية. والأَشياءُ التي بالاتفاق: منها أَشياء ليس الإِنسان سببها لا بالذات ولا بالعرض، مثل الحسب والمنشأ الفاضل، ومنها أَشياء تعرض عن الأَفعال التي تكون عن الروية. فأَما الاتفاقات المتقدمة على الإِنسان فتؤخذ في تقرير الفضيلة وتثبيتها، مثل ما يقال في المدح: إِن الخيار يولد في الخيار، وفي الذم: إِن الحية تلد الحية. والأَفعال بالجملة هي التي عليها يحمد الفاعل. وأَما آثار الأَفعال فهي دلائل على الفعل. وإِنما يمدح بها إِذا أَثبتنا منها الفعل.
قال: وجودة البخت التي قيل فيما تقدم إِنها السعادة على ما يراه الجمهور هي وسائر الأَشياء الاتفاقية التي يمدح بها واحدة في الجنس، وليست هي والفضائل واحدة بالجنس. بل كما أَن صلاح الحال جنس للفضيلة، أَعني محيطا بها، كذلك ما يحدث بالاتفاق جنس يحيط بالسعادة. وهذان الجنسان، أَعني الفضائل وما بالاتفاق، يدخلان جميعا في باب المدح وفي باب المشورة، لكن من جهتين مختلفتين. وإِنما كان الأَمر كذلك، لأَنا إِذا عرفنا الأَشياءَ التي يجب أَن تفعل، فقد عرفنا الأَشياءَ التي إِذا فعلت مدح بها الإِنسان. ولذلك إِذا ذكرت هذه الأَشياء ذكرا مطلقا، أَمكن أَن تدخل في المشورة وفي المدح، وذلك بزيادة الجهة التي بها تدخل في المشورة أَو الجهة التي بها تدخل في المدح. وذلك مثل ما يقول القائل: إِنه ليس ينبغي أَن يوجب العظم والفضل للأَشياءِ التي تكون للإِنسان بالعرض، بل للأَشياءِ التي تكون عن رويته واختياره. فإِذا زيد إِلى هذا: فلذلك ليس ينبغي أَن يمدح الذين سعادتهم بالبخت، وإِنما ينبغي أَن يمدح الذين سعادتهم عن روية واختيار كفلان، كان داخلا في باب المدح. وإِذا زيد إِلى هذا: فلذلك لا ينبغي أَن تطلب الأَشياء التي تكون عن الاتفاق بل الأَشياء التي تكون عن الروية، دخل في المشورة. والأَشياءُ الاتفاقية قد يمكن أَن تستعمل في المديح تارة وفي الذم أُخرى، فإِن ظنون الناس فيها مختلفة. فإِن قوما يرون أَن الخيرات التي تكون بالاتفاق ليس ينبغي أَن يمدح بها، إِذ كانت شيئا غير محصل ولا مكتسب للإِنسان؛ وقوم يرون أَنه يجب أَن يمدح بها وأَنها تدل على عناية إِلاهية بالذي تعرض له. وأَما الأَشياءُ التي عن الاختيار، فالممدوح منها يمدح به أَبداً، والمذموم منها يذم به أَبداً.