إنه قد يكون منهم الجور حين يظنون أَن ذلك الفعل مما يستطاع وهو ممكن لهم، وأَن يكون مما يجهل ولا يعلم، أَو يكون مما ينسى في مدة يسيرة إِن لم يكن مما يجهل. وإِن كان مما لا يجهل ولا ينسى فيكون مما لا يلحق الجائر في فعله شر أَصلا لا له ولا لبعض من يعنى به لأَنه عنده مثل نفسه، أَو يكون الشر اللاحق منه أَقل من المنفعة أَو اللذة التي ينالها بالجور وذلك إِما للجائر أَو لمن يعنى به. فأَما ذكر الأَشياء التي بها يكون الفعل ممكنا، فسيقال فيها بأَخرة وذلك في المقالة الثانية، لأَن القول في ذلك عام في جميع المخاطبات الثلاثة. وأَما الأَحوال التي لا يللحق الجائر بها شر أَصلا، أَو يلحقه دون الخير الذي يؤمله، أَو يكون الفعل مما يجهل أَو ينسى في زمان يسير، فيقال ها هنا، إِذ كان ذلك خاصا بهذا الموضع.
قال: وقد يظن أَنهم قادرون على الجور أَكثر من غيرهم: الصنف من الناس الذين يرون أَن لهم فضل قوة على غيرهم، وأَنهم يأْمنون من الشر اللاحق لهم، إِذا جاروا، وذلك إِما في أَنفسهم، وإِما في من يعنون به، وهؤلاءِ هم أَحد صنفين يفعل الجور بفضل قوة، وإِما صنف يفعله بتجربة وروية حتى يقدر في نفسه النحو والجهة التي بها يسلم من الشر، وذلك بطول تجربته ومزاولته المتقدمة. والجائرون يسلمون من الجور في عاقبة أَمرهم إِذا كانوا كثيري الأَخوان، أَو كان أَخوانهم مياسير، ولا سيما إِن كان الإِخوان داخلين في الأَمر معه، أَعني أَن ينالهم من الجور نفع أَو لذة، فإِنه تكون قدرته على الجور أَكثر. وكذلك إِن كان الداخلون فيه المشاركون إِخوان الإِخوان أَو خدم الإِخوان أَو أٌجراء الإِخوان أَو شركاؤهم أَو المنقطعون إِليهم، فإِن الجائرين إِذا كانوا بهذه الصفة كانت لهم قدرة على الجور والامتناع من أَن يعطوا طائلة أَو غرما. وقد يعرض لهم أَن تجهل أَفعالهم وتنسى، أَما جهلها فمن قبل المشاركين لهم، وأَما نسيانها فمن قبل أَنه لا يبدأ بالتظلم من االجائر أَولاً.
قال: ومما يسهل الجور أَن يكون الجائرون أَصدقاء للذين يجورون عليهم، أَو يكونوا أَصدقاء للحكام. أَما كونهم أَصدقاء للذين يجورون عليهم فلأَمرين: أَحدهما أَن الصديق لا يتحفظ من صديقه فيسهل الجور عليه. والثاني أَنه إِذا جارعله أَرضاه بأَدنى شيء قبل الوصول إِلى الحكومة، لأَن اليق يتغابن لصديقه. وأَما كون الحكام أَصدقاء فلأَن الحكام يقضون لمن أَحبوا بالميل والهوى، وذلك إِما بأَن يعفوه من الغرم البتة، وإِما أَن يغرموه اليسير. وهنا أَحوال أَضداد هذه الأَحوال المنسوبة إِلى القوة إِذا كانت في الجائر كانت سببا إِلى وقوع الجور منه، وذلك كالمرض والضعف والفقر. فإِن الضعيف والمريض قد يظن به أَنه لا يجور لأَنهم لا يحتملون العقوبة في أَبدانهم. وأَما الفقير فلأَنه لي عنده ما يغرم. وفعل الجور إِذا كان في الغاية من العلانية يخفيه ويوهم أَنه ليس بجور، وذلك أَن فعل الجائر، إِذا أَشبه فعل المخاتل أَو الهازل، غالط، فظن به أَنه ليس بجور. وأَيضا فإِن أَحداً لا يتحفظ من الجور الذي يكون علانية لقلة وقوعه، وإِنما يتحفظ من الجور بالجهة التي أَعتيد أَن يكون منها وهو الإِخفاء. فإِن الجهة التي لم يعتد منها فليس أَحد يحذرها. ولذلك لا يتحفظ منا ممن لا قدر له ولا من الإِخوان والولد. ومن الناس من لا يتحفظ بأَفعاله فيوهم بذلك أَنه يجهل ما يفعل أَو ما ينسى. وربما تغافلوا عن أَشياء تقع بهم حتى لا يتوهم عليهم أَنهم يبتدئون بالجور أَصلا. ومما يعين الجائر القوة على الإِخفاء، وذلك إِما بأَمكنة خفية تكون عنده وأَما بحالات فيه من شأْنها أَن تخفى أَفعاله، مثل أَن يكون ظاهره ظاهر من لا يظن به الفعل القبيح. وقد يتمكن من الجور الذين لا يجهلون ولا يجهل جورهم إِذا كان الحكام يجورون بأَحد معنيين: إِما بأَن يحرفوا السنة، وإِما بأَن يسوفوا الحق حتى يمل صاحبه ويترك طلبه. ولذلك اذا كان الجائر له قدرة على التراوغ عن الغرم أَو المماطلة أَو كان عديما سهل عليه الجور.