وهذه الصناعة يمكنها الإِقناع في المتضادين جميعا، كما يمكن ذلك في القياس الجدلي. وذلك أنا قد نقنع في ذي الجاني أنه أساءَ وأنه لم يسيء، ولست أعني أنا نفعل الأَمرين جميعا في وقت واحد، بل نفعل هذا في وقت، وهذا في وقت بحسب الأَنفع، وذلك أنه كثيرا ما يكون الشيءُ نافعا في وقت، وضده نافعا في وقت آخر. وأيضا فإِنه إِذا كانت الأَشياءُ التي تثبت الشيءَ وضده عندنا عتيدة، وسمعنا متكلما قد أقنع في الضد الذي ليس بعدل، أمكننا بهذه القوة إِن ننقض عليه قوله. فهاتان المنفعتان موجودتان في القدرة التي في هذه الصناعة على الإِقناع في الشيءِ وضده. وليس توجد هذه القوة في شيء من الصنائع القياسية إِلا في هاتين الصناعتين، أعني صناعة الخطابة وصناعة الجدل. وكلا هاتين الصناعتين هما مهيئتان بالطبع وعلى السواءِ للإِقناع في كلا المتقابلين، أعني أ، هـ ليس واحدة منهما توجد أشد استعدادا للإِقناع في أحد المتقابلين منها في الآخر، بل الاستعداد الموجود فيها على الإِقناع في المتقابلين هو على السواء. فأمما الأَشياءُ الموضوعة لهاتين الصناعتين، أعني الأَشياء التي فيها تقنع وبها تقنع، فليس استعدادها لقبول الإِقناع على السواءِ، ولا جدوى الإِقناع فيها على السواء. لكن إِذا كانت الأُمور التي تقنع فيها صادقة، كانت الأَقاويل الخطبية والجدلية التي تستعمل فيها أفضل وأبلغ.
قال: وليس واجبا إِن نرى أنه قبيح بالإِنسان إِن يعجز عن إِن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإِنسان، أعني إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الضرر العظيم، لا الضرر الذي هو عدل فقط، بل والضرر الذي هو جور. فإِنه يظن إِن هذا شيء يوجد عامَّا في جميع الفضائل التي هذه الصناعة واحدة منها، ما عدى الفضيلة النظرية والخلقية، ولا سيما في الأُمور العظام النافعة مثل الجلَد والصحة واليسار والسلطان وما أشبه هذه الأَشياء من الأُمور النافعة، أعني إِن كل واحد من هذه الخيرات هي معدة لأن ينفع بها المقتنى لها غيره منفعة عظيمة إِذا استعمل العدل، ويضر بها ضررا عظيما وذلك إِذا استعمل الجور. فإِن الصحة والجلَد والسلطان قد يستعملها المرءُ في الضرر والنفع، وكذلك الحال في الخطابة. فقد استبان من هذا إِن هذه الصناعة ليس تنظر في أحد المتقابلين، ولكنها تنظر فيهما على السواءِ، كالحال في الجدل، وأنها نافعة لهذا جدا.
وليس عمل هذه الصناعة إِن تقنع ولا بد، أعني أنه ليس يتبع فعلها الإِقناع ضرورة، كما يتبع فعل النجار وجود الكرسي ضرورة، إِذا لم يكن هنالك عائق من خارج، بل عملها هو إِن تعرف جميع المقنعات في الشيءِ وتأًتى بها في ذلك الشيء، وإِن لم يقع إِقناع. والحال فيها في هذا المعنى كالحال في صناعات كثيرة مثل صناعة الطب، فإِنه ليس فعلها الإِبراء ولا بد، بل إِنما فعلها إِن تبلغ من ذلك غاية الشيء الممكن فعله في ذلك الشيء المقصود بالإِبراء. ولذلك قد يشارك في أفعال هذه الصنائع مَنْ ليس مِنْ أهلها، مثل إِن يبرئ مَن ليس بطبيب، ويقنع مَنْ ليس بخطيب. لكن الفعل الحقيقي إِنما هو لصاحب الصناعة، وذلك إِن الغاية تتبع فعل هذا على الأَكثر، وذلك على الأَقل.