قال: والأَشياءً القبيحة التي هي ظاهرة للأَبصار، وفعلها علانية هي مما يخزى المرء منها أَكثر من غيرها. ولذلك يقال في المثل: إِنما الخزي فيما تراه العين. وإِذا كان الأَمر كذلك، فقد ينبغي أَن يكون الاستحياءُ أَكثر من الذين هم أَبدا حضور وبالقرب من الإِنسان، ومن الذين ينظرون إِليه من أَجل أَنهم منه بمرأَى العين. والذين لا يستحيون من هؤلاءِ فهم صنف مذمومون من الناس، لأَنه معلوم أَن الذين يبصرون أَفعال الإِنسان فإِما يحمدون وإِما يذمون. وتخيل عدم الحمد هو الذي يفعل الحياءَ كما تقدم.
قال: والصنف من الناس الذين لا يسترسل المرءُ إِليهم ويتحفظ منهم فقد يستحي منهم. وهذا الصنف هم الذين يعتقد الإِنسان فيهم أَنه ليس عندهم رأي يعبأ به ويعتمد عليه في الأَمر الذي أَخطأَ فيه أَو يظن أَنه أَخطأَ فيه، حتى يكونوا هم الذين يسددونه إِن أَخطأَ فيه أَو يبصرونه ظنه. لأَنه إِنما يسترسل الإِنسان في أَفعاله أَو يبوح بها عند خواص الناس، وهم إِما الصنف من الناس الذي يعتقد فيهم أَن عندهم تسديدا له وتقويما، ولذلك لا يستحي المتعلم من استاذه، وإِما الأَصدقاءُ الذين يطرح الإِنسان معهم المؤونة. وإِنما كان المرءُ يتحفظ ممن عدى هذين الصنفين أَن يبوح لهم بقول أَو يسترسل بحضرتهم في فعل لأَنهم يذمونه على ذلك، حتى أَنه إِن باح بشيءٍ ظنه، ولم يكن كما ظن، أَعتقد فيه أَن ذلك الذي قد باح به قد فعله، وفضحوه في ذلك، سواء كان ذلك الأَمر كما ظن، أَو لم يكن. ولذلك كان المظلوم لا يفصح بالشر الذي يتوقعه بالظالم إِلا لهذين الصنفين من الناس، أَعني الذين يعبأ بآرائهم ويعتمد عليها حيث يخاف الخطأ أَو الأَصدقاء.
قال: والصنف من الناس الذين يحفظون مساوئ الأَخلاق وينهونه عن الخطأ مستحى أَيضا منهم وممقوتون.
وكذلك الصنف من الناس الذين انتدبوا لبث مساوئ المعارف وخطئهم كفعل المزدرين المستهزئين. وأَعني بالمزدرين المخسسين للإِنسان، وبالمستهزئين المحاكين له، أَعني الذين يحاكون الشيءَ على جهة الازدراءِ به، وهؤلاءِ ممقوتون مستحى منهم. واسم الحشمة أَحق بهؤلاءِ الذين ذكرهم من اسم الحياءِ، وذلك أَن الحياءَ يكون ممن يظن به خيرا، والحشمة تكون ممن يظن به شرا. ولهذا كان الحياءُ من أَهل الشر ممزوجا بخوف. وممن يستحي المرءُ منهم الذين لم يحقروه قط في شيءٍ لأَنه يحسب أَنه عندهم بمنزلة المتعجب منه. وممن يستحى منه الذي احتاج إِليك في حاجة فقضيتها له، لأَنه عندك ممن يمدحك ولا يذمك. ومن هؤلاءِ أَيضا - أَعني الذين يستحي الإِنسان منهم - الذين يريدون أَن يستحدثوا صداقة الإِنسان، لأَنهم في هذه الحال إِنما يعرفون منه الفضائل فقط فهو يستحي من أَن يقفوا على مخزى. ومن الذين يستحي منهم الذين لم يطلعوا للإِنسان على شيءٍ يستحي منه.
قال: ثم إِنه ليس إِنما يستحيون من هذه القبائح التي ذكرت، بل من العلامات والدلائل التي تدل علها. وذلك أَنه ليس من الزنا يستحيون فقط، لكن ومن الدلائل التي تدل على الزنا. وكذلك ليس يستحيون من فعل الفواحش أَنفسها، ولكن ومن النطق بها، لأَن النطق بها علامة أَو دليل على فعلها. فهؤلاءِ هم أَصناف الناس الذين يستحى منهم.
وأَما الذين لا يستحى منهم فالذين يسترسل الإِنسان إِليهم ويطلعون على أَمره. وهؤلاءِ صنفان: إِخوان ومساعدون. فأَما الإِخوان فهم الذين يطرح معهم الإِنسان فعل الجميل الذي هو جميل عند الجمهور من غير أَن يكون بالحقيقة كذلك. وأَما المساعدون فهم الذين يطرح معهم فعل الجميل بإِطلاق كان جميلا في الحقيقة أَو في بادي الرأي. ومن الذين لا يستحي الإِنسان منهم الذين يستخف بهم ويستحقرهم، لأَنه لا يبالي باعتقادهم فيه كان خيرا أَو شرا ولا ما يكون عنهم من مدح أَو ذم، كما ليس يستحي أَحد من البهائم والأَطفال.
قال: وليس استحياءُ المرءِ من معارفه ومن الأَباعد استحياء بجهة واحدة.
وذلك أَن الحياءَ الذي يكون بحضرة من يعرفك يكون مما هو في الحقيقة قبيح، وممن لا يعرفك يكون مما هو في الظن والمشهور قبيح.
فهؤلاءِ هم أَصناف الناس الذين يستحى منهم والذين لا يستحى منهم.