وينبغي إِن نبتدئ بتعريف الأَقاويل المقنعة وما يرى أنه مقنع، فنقول: إِن الأَقاويل التي يكون بها الإِثبات والإِبطال كما أنها في صناعة الجدل صنفان: أحدهما الاستقراءُ، وما يظن به أنه استقراء، والصنف الثاني القياس، وما يظن به أنه قياس، كذلك الأَقاويل المثبتة في هذه الصناعة والمبطلة صنفان: أحدهما شبيه بالاستقراءِ وهو المثال، والآخر شبيه بالقياس وهو الضمير. والضمير الذي يظن به أنه ضمير وليس بضمير يشبه القياس الذي يظن به هنالك أنه قياس وليس بقياس. وكذلك المثال الذي يظن به أنه مثال وليس بمثال يشبه الاستقراء الذي يظن به أنه استقراءٌ وليس باستقراء. فالضمير هو القياس الخطبي، والمثال هو الاستقراء الخطبي. والخطباءُ إِذا تُؤمل أمرهم ظهر أنهم إِنما يفعلون جميع التصديقات التي تكون بالقول بهذين الصنفين، أعني إِما بالمثال، وإِما بالضمير، وذلك أنهم يؤمون بفعلهم هذا إِن يتشبهوا بالاستقراءِ والقياس. والذي يفعلون من ذلك إِنما يفعلونه بما هو مثال في الحقيقة وضمير في الحقيقة أو بما يظن به أنه كذلك، وليس كذلك. وقد تبين في كتاب القياس إِن كل تصديق فإِنه يكون بالقياس، وإِن الاستقراءَ والمثال إِنما يفيدان التصديق بما فيهما من قوة القياس. فأما ما هو القياس، وما الفصل بينه وبين البرهان، فإِنه قد قيل في كتاب الجدل. وقد تبين هنالك أيضا الفرق بين القياس والاستقراء.
والاستقراءُ والمثال يشتركان في إِن كليهما يثبتان إِن هذا الشيء موجود كذا، أو غير موجود كذا من أجل وجود ذلك الشيء أو لا وجوده في شبيهه.
والضمير والقياس يشتركان في إِن كليهما قول يوضع فيه شيء فيلزم عنه شيء آخر.
وإِذا كان الأَمر هكذا، فهو بيّن إِن في كل واحد من هذين الجنسين من القول نوعا خطبيا ونوعا جدليا ونوعا برهانيا ونوعا سوفسطائيا. فإِنه كما يوجد الاستقراءُ والقياس في هذه الصنائع، كذلك يوجد في الخطابة المثال والضمير. وإِنما تختلف في هذه الصنائع بجهة الاستعمال، أعني في صناعة البرهان وصناعة الجدل. والقياس في الجدل أوثق من الاستقراء. والمثال في الخطابة أقنع من الضمير؛ لأَن الضمير يتطرق إِليه العناد أكثر من تطرقه إِلى المثال. وسبب هذا سنخبر به فيما بعد، وكذلك كيف نستعمل هذه الأَشياء.
فأما الآن فينبغي إِن نحدد هذين الطريقين من الإِقناع: أعني الضمير والمثال، فنقول: المثال إِن القول المقنع إِما إِن يكون مقنعا لواحد من الناس، أو لجماعة من الناس أو لأَكثر الناس. وأيضا منه ما يكون إِقناعه في أمْرٍ كُلي، ومنه ما يكون في أمْرٍ جزئي. وكلا هذين منه ما يكون إِقناعه بيناً بنفسه، ومنه ما يكون إِقناعه بغيره في الجزئيات ضربان أحدهما إِن يقول القائل: إِن كذا إِنما هو كذا لموضع كذا، مثل قول القائل: إِن شراب السكنجبين ينفع فلانا لأَنه محموم. وهذا هو الذي يسمى الضمير. والضرب الثاني إِن يقول إِن كذا إِنما كان كذا لأَنه مثل كذا، مثل إِن يقول: إِن فلانا ينتفع بشراب السكنجبين، لأَن فلانا انتفع به. وهذا هو الذي يسمى المثال.
والمقنعات التي هي مقنعة عند واحد من الناس فليس تستعملها هذه الصناعة، لأَن ذلك غير متناه وغير معلوم عند المستعمل لها.