بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني فرده فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال:"هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟ " فقالوا ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله فلما كان الرابعة حفر له حفرة الحديث.
ومما يدل على أن أمر ماعز ف تكرر حضوره وإقراره لم يكن إلا للتثبيت لا لما يقتضيه الشرع من تكرر الإقرار ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن بريدة أن الغامدية قالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا الحديث واكتفى منها بالإقرار مرة واحدة فهذه امرأة محل النقص في عقلها ودينها فلو كان الإقرار أربعا لا بد منه لم يكثف منها بالإقرار ثم قولها لم تردني كما رددت ماعزا يفيد أن المألوف المعروف عندها وعند غيرها عدم اشتراط تكرر الإقرار ولو كان ذلك شرطا لم تستنكر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من رد ماعز.
إذا تقرر لك هذا علمت أنه يكفي في عدم اشتراط تكرر الإقرار أربعا ولم يكن في يد المشترط إلا ما وقع في قصة ماعز وقد عرفت سببه فمن زعم أنه يشترط أنه لا يقام الحد إلا بعد هذا الإقرار المكرر فعليه الدليل وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا فإن تبرع بالدليل القائل بأنه يكفي الإقرار مرة واحدة فمن جملة ذلك ما ثبت في الصحيحين [البخاري "٢٦٩٦، ٢٦٩٦، ٦٨٢٧، ٦٨٢٨، ٧١٩٣، ٧٢٧٨، ٧٢٧٩"، مسلم "١٦٩٧، ١٦٩٨] ، وغيرهما [ابو داود "٤٤٤٥"، النسائي "٨/٢٤٠، ٢٤١"، ابن ماجة "٢٥٤٩"، أحمد "٤/١١٥، ١١٦"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، فرتب الرجم على مطلق الاعتراف الواقع عند رسوله وفوضه في إقامة الحد عليها ومن ذلك ما ثبت عند مسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة ومن ذلك ما تقدم من إقرار الغامدية مرة واحدة ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنا بامرأة فجحدت فحده وتركها وهو في سنن أبي داود ومن ذلك حديث علي عند أحمد وغيره قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد وليس في ذلك أنها أقرت أربع مرات وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال ومن ذلك ما في الصحيحين [البخاري "٦٨٣٩"، مسلم ط٣٠/١٧٠٣"، وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم السيد أن يقيم الحد على أمته إذا زنت وليس فيه أنه لا يقيم الحد عليها إلا بعد إقرارها أربع مرات.
وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فهو قياس فاسد الاعتبار لمخالفته للأدلة وهو أيضا قياس مع الفارق وهو أن إقرار الإنسان على نفسه لا تبقى فيه شبهة ولا يخالج السامع عنده تهمة بخلاف قيام الشهادة عليه مع إنكاره ومن هذه الحيثية وقع الاكتفاء في الأموال بمجرد إقرار المقر مع أن الشهادة لا بد أن تكون من رجلين أو من يقوم مقامهما.