أقول: هذا الحد قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا شك فيه ولا شبهة لكن لم يقع الاتفاق على مقدار معين بل حاصل ما روى أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال كما في الصحيحين [البخاري "٦٧٧٣"، مسلم "٣٧/١٧٠٦"، وغيرهما أبو داود "٤٤٧٩"، الترمذي "١٤٤٣"] ، من حديث أنس وفي رواية لمسلم "٣٥/١٧٠٦"، وغيره من حديثه أنه جلد بجريدتين نحو أربعين وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث أنه صلى الله عليه وسلم أمر من كان في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال وفي البخاري أيضا من حديث السائب بن يزيد قال كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
إمرة أبي بكر وصدرا من إمرأة عمر فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفي البخاري أيضا وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن أتي به وقد شرب الخمر اضربوه قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه وفي الباب أحاديث وليس فيها أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الشرب مقدار معين واختلف اجتهاد الصحابة في التقدير فكان الواجب هو مجرد الضرب بالجريد والنعال والثياب والأيدي والمرجع في ذلك إلى نظر الإمام فإذا رأى أن يجلده عددا معينا إلى حد الثمانين الجلدة فله بما وقع من الصحابة أسوة وإن رأى أن يأمر بمطلق الضرب له من غير تعيين فله برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإن رأى زيادة الضرب إلى حد الثمانين على من استرسل في شربها وتخفيف الضرب إلى أربعين أو دونها على من لم يسترسل في شربها كان له ذلك اقتداء بما وقع من عمر في محضر الصحابة.
فعرف بمجموع هذا أن حد الشرب ثابت مع تفويض مقداره إلى الإمام والحاكم وقد قيل إنه لم يقع الإجماع على وجوب هذا الحد كما وقع الإجماع على وجوب سائر الحدود كما حكى ابن جرير وابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا حد على شارب المسكر ولكن هذا مدفوع بمتواتر السنة وبإجماع الصحابة ومن بعدهم فلا التفات إليه ولا تعويل عليه والإجماع ثابت قبل وجود قائله وبعده.
قوله:"ومن ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين" الخ.
أقول: لا وجه للاقتصار على شهادة العدلين بل يكفي في ذلك شهادة رجل وامرأتين كما حكم الله به بين عباده في الشهود وقد قدمنا التنبيه على هذا في الباب الذي قبله وهكذا يجوز للحاكم أن يحكم في هذا الحد بعلمه وقد أوضحنا ذلك فيما سبق ومثله حد القذف والسرقة ولم يخص من الحدود بكون الشهود أربعة رجالا إلا حد الزنا فيبقى ما عداه داخلا في عموم ما جعله الله مستندا لحكم الشرع وهكذا لا وجه لا شتراط أن يكون الإقرار مرتين ولم يرد بهذا دليل لا صحيح ولا عليل وليس على تعبير الإنسان عن نفسه بإقراره زيادة في سكون النفس وطمأنينة القلب وقد قدمنا أنها تكفي المرة الواحدة في الإقرار بزنا يوجب الرجم فكيف بما هو دونه ولكنها كثرة الشكوك في الحدود الناشئة عن ضعف العزائم في تنفيذ حدود الله سبحانه.