وننتقل بعد الحديث عن أسرار تنكير وتعريف المسند إلى الحديث عن أسرار تقديمه.
ذلك أن الأصل في المسند إليه إذا كان مبتدأً أن تكون رتبته التقديم، نحو: زيد قائم، وعمرو منطلق. وإذا كان فاعلًا فرتبته التأخير، أي: الوقوع بعد الفعل، وهو المسند. نحو: قام زيد، ويعطي محمد الجزيل، فإذا قدم المسند إليه على خبره الفعلي، كان ذلك لأسرار بلاغية على نحو ما عرفنا سابقًا في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي.
وكذلك إذا قدم المسند على المسند إليه الذي رتبته التقديم وهو المبتدأ؛ فإن هذا التقديم يكون لأسرار ومزايا بلاغية. أهمها: إفادة القصر، أي: قصر المسند إليه على المسند المقدم. كما في قول الله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(الكافرون: ٦). فالمعنى: أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على كونه لكم، لا يتجاوزكم إلي. وديني الذي هو التوحيد مقصور على كونه لي، لا يتجاوزني إليكم. فالمقصور عليه هو المسند المقدم، والمقصور هو المسند إليه المؤخر، وكذا القول في الآيات الكريمة:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}(االأنبياء: ٩٧). وقوله:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}(الغاشية:٢٥، ٢٦). وقوله:{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}(القيامة:٢٩، ٣٠). وقوله:{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}(القيامة: ١٢).
فالتقديم في هذه الآيات الكريمة أفاد قصر المسند إليه المؤخر على المسند المقدم،