لأن غير المنكر يشمل المتردد، كما يشمل خالي الذهن. وخذ مثلًا قول الله تعالى في تنزيل المنكر منزلة المتردد:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}(المؤمنون: ١٦) فهم ينكرون البعث ويستبعدونه، ومع ذلك فقد أكده تأكيدًا واحدًا، بينما أكد إثبات الموت في الآية السابقة عليها تأكيدين؛ ولعل السبب في ذلك أنه لما كانت أدلة البعث ظاهرة كان جديرًا بألا ينكره أحد، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيهًا لهم على ظهور أدلته وحثًّا على النظر فيه، كذا ذكره الخطيب في (الإيضاح). وهذه هي أهم مواقع الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر، وهي لا تحسن إلا إذا كان المتكلم بليغًا والمخاطب ذا ذوق رفيع وحس مرهف وعقل واع بجمال هذه الأساليب.
مراعاة حال المتكلم
عرفت أن تقسيم الخبر إلى أضربه الثلاثة: الابتدائي، والطلبي، والإنكاري إنما هو لبيان حاله من حيث التوكيد وعدمه بحسب حال المخاطب من الإنكار وغيره، سواء أكانت هذه الأضرب تحقيقية أم تذييلية، فالمتكلم ينظر إلى حال مخاطبه ويصوغ عبارته على أساس ما يقتضيه حاله من التوكيد وعدمه، ولا يعني هذا بحال أن البلاغيين بذلك قد غفلوا حال المتكلم نفسه وأنهم قصروا البحث في توكيد الخبر ودواعي توكيده على حال المخاطب فقط، فقد يكون الداعي إلى توكيد الخبر هو حال المتكلم نفسه ومدى انفعاله بالحكم الذي يقرره في كلامه، كما يكون حاله أيضًا داعيًا إلى خلو الكلام من التوكيد.