فإن هذه الشواهد قد اشتملت على أساليب إنشائية يطلب بها أمر غير حاصل وقت الطلب، فالله --عز وجل-- يأمر نبيه:{فَاصْدَعْ}، {وَأَعْرِضْ}، والأمر: طلب للفعل. وينهاه: رلَا تَحْسَبَنَّ}، والنهي: طلب الكف عن الفعل. وعمر ينادي عبد الله:"يا بني"، في النداء طلب الإقبال. والكافر يتمنى:{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ}، والتمني: هو طلب المحبوب الذي لا طمع فيه. والسفهاء يسألون:{مَا وَلَّاهُمْ}، والاستفهام: طلب الفهم.
فهذه الأساليب قد طلب بها -كما ترى- أمور غير حاصلة أثناء الطلب؛ ولذا كان الإنشاء فيها إنشاء طلبيًّا، فإذا استعملت تلك الأساليب الأمر والنهي والتمني والاستفهام والنداء في أمور حاصلة وقت الطلب وجب تأويلها بالطلب بحسب القرائن وما يناسب المقام، قوله تعالى مثلًا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}(الأحزاب: ١)، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}(النساء: ١٣٦) وقول عمر السابق: "يا بني، اتق الله". تجد بتأمل هذه الأساليب أن التقوى والإيمان المأمور بهما حاصلان وقت الطلب. فالمعنى فيهما على طلب دوام الإيمان واستمرار التقوى.
أما الإنشاء غير الطلبي: فهو ما لا يستدعي مطلوبًا، وله صيغ كثيرة؛ منها القسم قوله تعالى:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}(الأنبياء: ٥٧)، وأفعال المدح والذم كقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}(الذاريات: ٤٨)، وقوله -عز وجل-: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}(الجمعة: ٥)، والترجي كما في قوله تعالى:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}(المائدة: ٥٢)، وقوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(الكهف: ٦).