هو مقتضى الحال، ومجيء الكلام مؤكدًا هو المطابقة لمقتضى الحال، وهكذا إن اقتضى الحال التأكيد كان الكلام مؤكدًا، وإن اقتضى الإطلاق كان عاريًا عن التوكيد، وإن اقتضى حذف المسند إليه حذف، وإن اقتضى ذكره ذكر. إلى غير ذلك من الأحوال والاعتبارات المعروفة في علم المعاني، والتي بها يتفاضل الكلام في ميزان البلاغة.
فلا بد أن يكون الكلام مطابقًا لأحوال المخاطبين وعلى قدر عقولهم ليؤثر فيهم، ويؤدي غايته المنشودة، وأحوال المخاطبين متفاوتة، ودرجاتهم في الإدراك مختلفة، ولذلك كانت مقامات الكلام متفاوتة تبعًا لتفاوت أحوال المخاطبين، ولكل مقام مقال، كما هو معلوم، فمقام التنكير -كما ذكر الخطيب في (الإيضاح) - يباين مقام التعريف، مقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام، وارتفاع شأن الكلام في القبول وسمو منزلته في الحسن لمطابقته لمقتضى الحال أو لاعتبار المناسب، وانحطاطه بعدم مطابقته له، وذلك كالإيجاز في مقام يقتضي الإطناب، أو الفصل حيث يجب الوصل، أو التأكيد لخالي الذهن الذي لم ينزل منزلة السائل المتردد وغير ذلك.
والقرآن الكريم هو خير ما روعي فيه مقتضيات الأحوال، ولعلك تلحظ اختلاف أسلوب النظم الكريم تبعًا لاختلاف المواقف والأحوال بصورة واضحة، فهو حين يواجه المشركين المعاندين؛ يلجأ إلى الأسلوب القوي الحاسم؛ ليثير الانفعال السريع العنيف، وكثيرًا ما يتدفق الأسلوب في جمل قصيرة سريعة تهز أوتار المشاعر، وتحرك كامن العواطف، مثلًا قول الله تعالى في سورة الحاقة، وهي