طالب للحكم، مستشرف لمعرفته، ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ ليزيل تردده ويضع يده على الحقيقة. والثالث: إنكاري وذلك إذا كان المخاطب منكِرًا للحكم الذي يتضمنه الخبر معتقدًا غيره، فيجب أن يؤكد له الخبر بحسب إنكاره قوة وضعفًا، فكلما زاد إنكاره زِيد له في التوكيد، وعلى سبيل المثال إذا كان المخاطب ينكر صدقك، فإنك تقول له: إني صادق. فإذا بالغ في الإنكار وأصر عليه تقول: إني لصادق. ومنه -هو خير ما يمثل به في هذا الباب- قول الله تعالى في شأن رسل عيسى -عليه السلام:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}(يس: ١٣ - ١٦).
ولعلك ترى خطاب الرسل لأصحاب القرية قد جاء هنا مؤكدًا في المرة الأولى بإن واسمية الجملة {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ولما اشتد تكذيب آل القرية لهؤلاء الرسل جاء الرد في المرة الثانية مؤكدًا بإن واللام واسمية الجملة والقسم {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}(يس: ١٦). وتأمل قول الله تعالى في الرد على منكري البعث:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(التغابن: ٧) فهم ينكرون البعث، كما يحكي القرآن عنهم في أكثر من موضع، ولذا جاء الرد عليهم مؤكدًا: بالقسم، وربي، واللام، ونون التوكيد الثقيلة في جواب القسم "لتبعثن" لأن المقام يقتضي ذلك، فالبعث أمر فطري يستوجب العمل لما بعده والإيمان به،