فهم سليم وذوق رفيع وبصيرة نافذة حتى يكون لكلامه أثره المنشود في التأثير وإصابة الغرض، وإلا فلا قيمة للكلام، ولا وزن له من وجهة النظر البلاغية، وبيان ذلك أن المتكلم قد يفترض في مخاطبه حالًا ليس لها ثبوت في الواقع أو وجود حقيقي عنده، ويجيء بكلامه مطابقًا لتلك الحال المفترضة؛ وذلك لأسرار بلاغية تستدعي هذا الأسلوب، ويسمى ذلك الصنيع: إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ومن صوره ما يلي:
١ - تنزيل العالِم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما؛ أي الخالي الذهن، وذلك لعدم عمله بما يقتضيه علمه من العمل به والانتفاع بتوجيهاته في حياته العملية، كقولك مثلًا لتارك الصلاة مع علمه بوجوبها: الصلاة واجبة؛ توبيخًا له على عدم عمله بمقتضى علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل. ومنه قولك للمتعلم حين يعق والديه: عقوق الوالدين من الكبائر. وقول الفرزدق يخاطب هشام بن عبد الملك حين تجاهل معرفة زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنهما:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
فهشام بن عبد الملك يعرف أن هذا الذي التف الناس حوله هو علي بن الحسين، ولكنه تجاهله لغرض في نفسه، فخاطبه الفرزدق بهذه الأبيات منزلًا إياه منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، ولا يخلو هذا الأسلوب من توبيخ وتأنيب للمخاطب وتعريض به. ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل