للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بدا للناس -من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كل الأمكنة- عجزهم عن المقاومة. مالوا -مؤقتًا- إلى التريث، فرحلة السمان لا تعرف التوقف.

هل يعد السمان نفسه لإقامة طويلة؟ لم يحاول أن يضايق الناس، ولا أن يسطو على ما يمتلكون، أو يدس منقاره في شئونهم الشخصية. أهمل حياتهم، فهم يحيونها بمثل ما اعتادوا: النوم والصحو والعمل والنقاش والفصال والأخذ والرد واجترار الذكريات، أحسنت مجموعاته الانتشار، فهيأت لنفسها الرزق.

اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي، تدير منها أحوالها، أفرزت -من بين أسرابها كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين، وموظفين. حتى الصغار، أقامت لهم مدارس ودور حضانة في حنيات السلالم والأدوار الأرضية. أغنت الناس عما ألفوه -في الزمن الخالي- من الجري وراء أسراب السمان، حتى يهوي مجهدًا في أيديهم، فتنازلت -بطيب خاطر- لموائد الطعام، عن مرضاها والمصابين في الحوادث.

لم يعد في الأمر ما يريب. استفاد الناس من حياة السمان بصورة مؤكدة: النظام والهدوء وحب العمل -والكسب- والميل إلى عدم السهر. لكن شيئًا ما مقلقًا، تحرك في النفوس، وتصاعد بالهمس، أثار الملل والمخاوف والأسئلة. لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرفون بمثل ما اعتادوا، وتنبهوا -وإن كان متأخرًا- إلى ملايين الأعين والأنفاس القريبة، والمقاسمة في المكان مهما كان

<<  <   >  >>