أثابكم الله، فضيلة الشيخ هذا سائلٌ يقول: هل يعدُّ امتناع الولد عن إعطاء والده من المال الذي يجمعه لحاجة ضرورية، خاصةً إذا كان والده ليس في حاجةٍ ضرورية، وإنما لإيجاد كماليات؟ هل يعد هذا من العقوق؟
الجواب
إذا كان الوالد يسأل الولد المال، فإن الله عز وجل يبتلي الولد بهذا السؤال، وإذا أراد الولد أن يبارك الله له في ماله، وأن يبارك له في حاله، فليبر والديه، وليعلم أن الدنيا أهون من أن تكون أعز عليه من والده، وأن لوالده من الفضل والإحسان والبر ما لا يستطيع أن يكافأ إلا بالدعاء، وسؤال الله عز وجل أن يرد جميله وفضله عليه، فالدنيا أهون من أن تكون أعز عليك من والدك ووالدتك، بل على الولد أن يبادر، والله عز وجل يبتلي كل مؤمن على قدر ماله، فإذا كمل التزامه وطاعته لله عز وجل، ابتلاه بمثل هذه المواقف.
ذكروا عن رجلٍ أنه كان من أبر الناس بوالده، جمع مالاً من أجل الزواج، فجمع اثني عشر ألفاً وهو في أشد ما يكون حاجةً إليها، يقول: ففوجئت في يوم من الأيام وإذا بالوالد في ضائقة، وجاءه من يسأله ديناً عليه، فاحتاج الوالد للمال، قال: فترددت أن أعطيه المال الذي عندي، أنظر إلى حاجتي للزواج، وأنظر إلى حاجته، وأتذكر ما في البر من الخير، وأتذكر ما أنتهي إليه لو أعطيته هذا المال، حتى وفق الله فقمت وأخذت الاثني عشر ألفاً، وجئت إليه ووضعت المال بين يديه، فلما وضعته بين يديه، قال: لا آخذه، فقلت له: والله لتأخذنه.
قال: فأقسمت عليه أنه يأخذه، والله يعلم أني في أشد ما أكون حاجة إليه، قال: فلما وضعته بين يديه، وحلفت عليه أن يأخذه، ورأى مني الرضا، دمعت عيناه، وبكى وقال: أسأل الله عز وجل أن يفتح لك أبواب الخير، أو دعوة نحوها يقول: فشاء الله عز وجل أنني ما مضى أسبوع إلا وأنا أدعا في وليمة لصديقٍ لي، فجئت إلى هذا الصديق على غداء، فجاء وإذا برجلٍ تاجر عنده يسأله أثناء حديثهم وهم على الطعام، يقول له: هل تعرف إنساناً ديناً أميناً يحفظ لي مالي هنا في المدينة، فقال له: لا أعرف لك خيراً من هذا الرجل، قال: فوكّله على بعض أعماله، فكانت أول صفقة له قيمتها مائةٌ وعشرون ألفاً، فرد الله له عشرة أضعاف ما بذل، مع ما له من الرضا من الله، ومع ما فاز به من محبة الله عز وجل، يقول: فهو في رغد من العيش وفي غنى، فليبشر البار بكل خير عند التضحية، لمّا تكون أحوج ما تكون إلى المال، وأحوج ما تكون تأتي إلى الراحة والدعة، وتقف أمام بر الوالد أو الوالدة، أو حاجتهما، فهناك يكمل البر، وتنام العين وتقر بإرضاء الله عز وجل، وبرضا الوالدين.
فالشاب الصالح الموفق، لا يجلس يدقق في مثل هذه الأمور، لا تنظر إليها مسألة يجب أو لا يجب، يجوز أو لا يجوز، انظر إلى إنك مبتلى قبل كل شيء، ولو أن الله حاسبنا بما نعمل، لكان الإنسان من الهالكين، ولكن الله يوجب للعبد مثل هذه المواقف، التي يُضحي فيها، فإن ضحى ووفَّى لله، وفَّى الله له، ولعل الله أن يفتح له بها باب خيرٍ في الدين والدنيا والآخرة.
وكان بعض الأخيار لا يسأله والده شيئاً إلا أعطاه، حتى لربما يشتري الأرض بالألوف، فيأتيه والده يقول: اكتبها باسمي، والله لا يتراجع، ومع ذلك في غنى ويسار ورضا، حتى أرضا والده بالأموال، فمات والده وعنده الأموال الكثيرة، والابن عنده أضعافها، ثم ورث والده، ففاز بخير الدنيا والآخرة، فخير ما يُوصى به بعد الإيمان بالله وتوحيده بر الوالدين، ومن بر والديه بشِّره بكل خيرٍ في دينه ودنياه وآخرته، لن يقرع باباً من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيل برٍ إلا يسره الله له، ولذلك ينبغي للمسلم ألا يدقق في مثل هذه الأمور، واعلم رحمك الله أنه أفضل ما يكون من نفسك أن تنتظر الساعة التي يحتاج فيها والدك، بل قال بعض العلماء: أفضل ما يكون البر أن تنظر إلى حاجة والدك قبل أن يسألك، وتأتيه وتعطيه قبل أن يسألك، حتى كان بعض السلف ذُكر عنه أنه كان لا تأتيه نعمة إلا عرض على والديه أن يأخذها قبل أن يأتي بها إلى بيته.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الرضا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وصلى الله على محمد وآله وسلم، وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.