للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إنفاق الزوج على زوجته]

أما الحق الثاني الذي أوجب الله للزوجات على أزواجهن: فهو حق النفقة.

وهذا حق دلّ عليه دليل الكتاب والسنة والإجماع: قال الله في كتابه: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:٧] (ذو سعة) يعني قدرة، سعى وسعة، (من سعته) أي: مما أعطاه الله عز وجل عليه ووسّع عليه من المال، ينفق إذا كان غنياً مما آتاه الله على قدر غناه، وإذا كان فقيراً مما آتاه الله على قدر فقره، هذه الآية الكريمة يقول العلماء فيها أمران: الأمر الأول: وجوب النفقة في قوله: (لينفق) فالنفقة واجبة.

وأما الأمر الثاني: أنها تتقيد بحال الرجل إن كان غنياً فينفق نفقة الغني.

فذو سعةٍ من سعته: ذو الغنى من غناه، وذو الفقر من فقره في قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:٧] ، فهذان أمران: النفقة واجبة، وعلى الغني على قدر غناه، وعلى الفقير على قدر ما آتاه الله، وكذلك أوجب الله النفقة في قوله سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:٣٤] ، فأخبر سبحانه أن الرجل له فضلٌ على المرأة بالقيام بنفقتها.

وثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالنفقة والحث عليها، ووصية الأزواج بالقيام بها على وجهها، حتى أباح للمرأة أن تأخذ من مال الزوج إذا امتنع من الإنفاق عليها، قال عليه الصلاة والسلام حينما اشتكت إليه هند رضي الله عنها، فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسّيك، أفآخذ من ماله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسّيك) أي: رجلٌ شحيح، ويمسك المال، فإذا أنفق لا ينفق نفقةً تكفيني، وكذلك أيضاً: مسيك، أي يخاف على ماله.

يقول بعض العلماء: لعلّ هنداً تجاوزت في الوصف؛ وذلك أن هنداً كانت من الأثرياء ومن بيت غنىً، ولذلك قالت: (رجلٌ شحيح مسّيك) فبالغت في الوصف.

وقال بعض العلماء: لم تبالغ، الذين قالوا: إنها بالغت في الوصف، قالوا: إن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، ولذلك قالوا: لم يعط لها الأمر بدون تقييد، والذين قالوا: إنها قد اشتكت من ضيق يد أبي سفيان، قالوا: إن هذا يؤكد أنها ظُلمت لقوله: (خذي) وهذا هو الصحيح، أعني الوجه الثاني، وعلى هذا لما قال لها: (خذي من ماله) دلّ على أن المرأة لها في مال الرجل حق من أجل النفقة.

وأما الدليل الثاني من السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم على نسائكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم: أن لا يوطئ فرشكم من تكرهون، وأن لا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، وأما حقكم عليهن: أن تحسنوا إليهن في طعامهن وفي كسوتهم) .

(فأما حقهن عليكم) قالوا: قوله حق، يدل على أنه واجب، ولكن على الزوج، فدل هذا الحديث على أن النفقة من الزوج على زوجته واجبة ولازمة.

وفي حديث معاوية رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأتي عليَّ؟ قال: تطعمها مما تطعم، وتكسوها مما تكتسي) ، فدل على أن من حق المرأة على زوجها أن يطعمها ويكسوها، وأجمع العلماء رحمةُ الله عليهم: على أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بالمعروف، قال بعض أهل العلم: إنما وجبت النفقة على الرجال؛ لأن المرأة محبوسةٌ في البيت، عاطلةٌ عن العمل، والأصل في المرأة أن تقوم على بيته وأن ترعى بيته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله في خطبته كما في الصحيح في حجة الوداع: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنما هنّ عوان عندكم) عوان: أي أسيرات، قالوا: ولذلك أُمِرَ الرجل أن يقوم بالإنفاق على المرأة من أجل هذا.

أما الأمر الآخر الذي جعل النفقة على الرجل للمرأة: فالحقوق المتبادلة والمنافع التي يبادل كلٌ منهما الآخر، فالمرأة يستمتع بها الرجل، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:٢٤] ، فاستحقت أن تأخذ أجرها على ما يكون منها من القيام بحق بعلها في فراشه.

ولذلك قالوا: إذا نشزت وامتنعت من الفراش كان من حقه أن يمتنع من الإنفاق عليها، ونصّ بعض العلماء على أن من أسباب النفقة كونها فراشاً للرجل، فلهذا كله أوجب الله على الرجال الإنفاق على النساء، والقيام بحقوقهن، وهذه النفقة فيها مسائل: المسألة الأولى: ما هي أنواع النفقة التي ينبغي على الزوج أن يقوم بها تجاه زوجته؟ والمسألة الثانية: ما هي ضوابط النفقة التي ينبغي أن يتقيد بها الرجل، بمعنى: أن يؤديها على سبيل اللزوم، وإذا أداها برئت ذمته؟ أما بالنسبة لأنواع النفقة فإنها تنحصر في الإطعام والكسوة والسكن، فهذه ثلاثة أمور ينبغي للزوج أن يراعيها في إنفاقه على زوجته وأهله وولده.

الحق الأول في الإنفاق الإطعام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبّه عليه في حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه وأرضاه في خطبته في حجة الوداع فقال: (أما حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في طعامهن وكسوتهن) ، قال العلماء: إن عموم الأدلة التي دلت على النفقة يدخل فيها الطعام؛ لأن الله عز وجل قيّد ذلك بالمعروف، وقيّده النبي صلى الله عليه وسلم بالمعروف، والمعروف في أعراف المسلمين أن الزوج يطعم زوجته ويقيم على طعامها على الوجه الذي لا إضرار فيه، والطعام يستلزم أن يقوم الزوج بتهيئة ما تحتاجه المرأة وكذلك ولده بالتبع من جهة الأكل، قال العلماء: يلزمه أمران: الأمر الأول: الطعام وما يحتاج إليه لاستصلاح الطعام فيطعمها، فيكون الطعام كحبٍ ونحو ذلك وما يؤتدم به الطعام، فهذا كله لازمٌ على الزوج، ويكون مقيداً بالعرف، فإذا كان غنياً فإنه يكون طعامه مرتبطاً بطعام الأغنياء مثله، فلا يطعم الغني طعام الفقير، ولا يطعم الفقير طعام الغني، بمعنى لا يلزمه ذلك، ولا تطالبه المرأة بمثل ذلك.

قال العلماء: الطعام ينقسم في الأعراف إلى ثلاثة أقسام: الأفضل الجيد، والرديء، والوسط بينهما، فإن كان مال الرجل ودخله وما هو فيه من الحال هو حال أهل الغنى وجب عليه أن يطعم زوجته بالطعام الجيد الذي يطعمه مثله من ذوي اليسار، وإذا عدل عن الطعام الجيد إلى أردئه فإنه يكون ظالماً، وكان من حق الوالي والقاضي أن يلزمه بأجود الطعام وأحسنه، كذلك أيضاً العكس، فإنه إذا كان فقيراً وسألته المرأة أو وليها أن يطعمها طعاماً أفضل من طعام مثله وألحّت عليه في ذلك لم يجب عليه أن يلبي لها ذلك؛ لأن الله عز وجل أمر الإنسان أن ينفق على قدر ما أعطاه، قال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:٧] ، وقوله: (من قُدِرَ) يعني: من ضيق، كما قال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:٢٦] ، يعني: يوسع ويضيق، فقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} يعني ضيق عليه.

وهنا مسألة وهي: أن الزوج ربما يكون ماله ودخله طيباً، ولكن تنتابه ظروف لا يستطيع معها أن ينفق نفقة مثله، وهذه الظروف تنقسم إلى قسمين: الحالة الأولى: إما أن تكون ظروفاً قسرية تجبره على أن يقصّر في النفقة وينزل عن نفقة مثله، فهذا اغتفره العلماء، كما لو طرأت عليه خسارة أو طرأت عليه مصيبة في مال، فاحتاج أن يدفع فأخذ يقسط من شهره، حتى ضيّق على أهله في طعامهم، فهذا لا إثم عليه.

الحالة الثانية: أن تكون ظروفاً كمالية؛ كأن يريد أن يشتري شيئاً، وهذا الشيء من باب الكمال: كسيارةٍ أو نحو ذلك، كما ذكر بعض العلماء من دابة أو مركوبٍ أو نحو ذلك، يريد أن يشتري أفضل مركوب، وهذا أفضل مركوب سيكون على حساب زوجه وأولاده، فيضيق عليهم في النفقة، قالوا: إنه يكون ظالماً في هذه الحالة، وأنه لا يجوز له في هذه الحالة أن يطلب الكمال على وجهٍ يضيع فيه الحق الواجب، بل عليه أن يبقى على النفقة، ويلزم شرعاً في الإفتاء والقضاء أن يبقى على نفقة مثله ولو اعتذر بهذا الكمال فإنه لا عذر له فيه، ويُحكمُ بإثمه إذا ضيق على أهله وولده.

الأمر الثاني مما يحتاج إليه في الإطعام: يلزم الزوج بكل ما يهيئ به الطعام عرفاً، فيشتري للمرأة الآلات والوسائل التي يمكن معها إصلاح الطعام، ويعتبر شرعاً ملزمٌ به، فإن امتنع أجبر قضاءً، ومن الأخطاء أن بعض الأزواج يمتنع من شراء بعض الآلات ويلزم الزوجة بشرائها، وقد يلزم أولياءها بشرائها، وهذا يعتبر من الظلم كما ذكر بعض أهل العلم رحمةُ الله عليهم، بل ينبغي على الزوج أن يشتري آلة الطهي وإعداد الطعام ومواعينه ونحو ذلك وهو ملزمٌ بها شرعاً، ولكن قد تطالب المرأة بما هو أفضل، فتطالب بشراء ما هو أغلى وأجود، فمن حق الزوج أن يردها إلى الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، خاصةً إذا كان من غير ذوي اليسار.

كذلك أيضاً: ينبغي على الزوج وهو الحق الثاني في الإطعام إذا قلنا أنه ينبغي عليه أن ينفق عليها في طعامها ف

السؤال

هل يجب عليه أن يعطيها نفقة الطعام بيدها، أم أنه يشتري الطعام لها؟ إذا كان الزوج يريد إعطاء المرأة المال بيدها فلا بأس، لكن إذا كانت المرأة سفيهةً بالتصرف ولا تُحسن القيام والنظر لنفسها وولدها، فإن من حقه أن يلي شراء ذلك، قال العلماء: إنه إذا كانت المرأة لا تُحسن الأخذ لنفسها ولا الإعطاء لغيرها كان من حقه أن يأخذ النفقة، لكن الأصل أنه يعطيها النفقة بيدها، وقال العلماء: يختلف ذلك باختلاف الناس، فإن كان من الفقراء والضعفاء لزمه أن يعطي النفقة كل يومٍ ب

<<  <  ج: ص:  >  >>