التمايز بالشخصية والطابع النفسي:"وإن الشعراء بعيدون كل البعد عن أن يصلوا إلى ما وصل إليه الكتاب من التمايز بألفاظهم، وأساليبهم، وآرائهم وشخصياتهم، وأن يستقلوا عن القدماء من فحول الشعراء ... حتى أصبح من أيسر الأمور على الناقد إذا قرأ قصيدة لشوقي، أو لحافظ أو غيرهما، أن يرد القصيدة إلى أصلها القديم الذي أخذت منه، أو أن يرد كل جزء من أجزاء هذه القصيدة إلى أصله الذي أخذ منه١".
فكما جرت حسنة إسهام الشعر في النضال إلى غلبة شعر المناسبات والمحافل، الذي جر بدوره إلى عدم الاهتمام بصدق التجربة، ثم إلى الخطابية والمباشرة في التعبير؛ كذلك جرت حسنة الكلف بتجويد الصياغة، إلى عدم العناية بالأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، وإلى عدم اتضاح شخصية الشاعر وطبعه، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس.. وهناك ظاهرة سيئة أخرى جاءت أيضًا نتيجة لعدم رعاية الجانب المعنوي في الشعر، وتلك الظاهرة هي عدم رعاية الوحدة العضوية، بحيث جاءت أغلب قصائد الشعراء المحافظين مشتملة على عدد من الأغراض أولًا، ثم جاء الغرض الواحد غير مترابط المعاني، ولا مرتبها ترتيبًا بنائيًا متآزرًا ثانيًا.
وهكذا أصبح الشعر المحافظ البياني ليس المثل الفني الأعلى، رغم ما له من حسنات روعة للصياغة، والإسهام في النضال، والقضاء الكامل على بقايا الاتجاه التقليدي المتخلف، وملء الحياة الأدبية بالشعر المشرق الحي، وأصبحت الحاجة ماسة إلى شعر آخر يخطو إلى مرحلة جديدة غير مرحلة البعث التي رادها البارودي، ويتجنب عيوب الشعر المحافظ البياني، التي في مقدمتها: الالتفات إلى القديم، ومحاكاته بالتمثل، والاستيحاء أو المعارضة، ثم الإكثار من القول في المناسبات والمجاملات، مما يجعل أكثر النتاج الشعري متناولًا لخارج نفس الشاعر ووجدانه، غير صادر عن تجاربه وأحاسيسه، ثم الاهتمام البالغ بجانب الصياغة، وعدم رعاية جانب المعنى، وما يطلبه من فكر صائب ووجدان صادق، وأخيرًا عدم رعاية الوحدة العضوية، نتيجة للاهتمام بجوانب بلاغية جزئية، والكلف بجمال البيت المفرد، وعدم النظر إلى القصيدة كبناء فني.