حتى الأنبياء أنفسهم؛ وقد أجمعت الشرائع على عصمتهم من الزلل والخطأ. ولكن الورداني يريد أن يضع نفسه فوق كل الدرجات المتصورة، فحاكم وحكم، وقتل:
"إني لترتعد فرائصي إذا تصورت منظر البلاد، وقد فشا فيها البلاء الأكبر بفشو تلك المبادئ القاضية١".
والنموذج الثاني جزء من مرافعة أحمد لطفي حين كان مدافعًا في القضية نفسها، وفيه يقول مخاطبًا الورداني ... " " ... أما أنت أيها المتهم، فقد همت بحب بلادك حتى أنساك هذا الهيام كل شيء حولك؛ أنساك واجبًا مقدسًا هو الرأفة بأختك الصغيرة، وأمك الحزينة، فتركتها تبكيان هذا الشباب الغض، تركتهما تتقلبان على جمر الغضا، تركتهما تقلبان الطرف حولهما، فلا تجدان غير منزل مقفر غاب عنه عائله، تركتهما على ألا تعود إليهما، وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبرًا على فراقك لحظة واحدة؛ فأنت أملهما ورجاؤهما.
"دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب، وحجب عنك كل شيء غير وطنك، فلم تعد تفكر في تلك الوالدة البائسة، وهذه الزهرة اليانعة، ولا فيما ينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه، ونسيت كل أملك في هذه الحياة، وقلت: إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت أن الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك، أي أعز شيء لديك ولدي أختك ووالدتك؛ فأقدمت على ما أقدمت راضيًا بالموت لا مكرهًا، ولا حبًّا في الظهور، أقدمت وأنت تعلم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك، ففي سبيل أمتك بعت حريتك بثمن غال.
"فاعلم أيها الشاب أنه إذا اشتد معك قضاتك -ولا إخالهم إلا
١ هذه المرافعة في: الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية "عن الخطابة للدكتور أحمد الحوفي ص٩٧-٩٨".