للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والقهوة وقلت لنفسي: "إني أشرب اللبن مع القهوة صباح كل يوم، وقد شبعت من غيره اليوم، وليس في مقدوري أن أضيف إلى ما في معدتي من اللبن شيئًا". وقمت لأرتدي ملابسي، وإذا بي أرى كلبي يبصبص لي بذنبه، فأفرغت ما كان في فنجاني من اللبن في وعاء الكلب، وتركته والوعاء.

"ركبت ركاب رمل حتى الإسكندرية، وقضيت بعض حوائجي، ثم أردت الرجوع، فانتظرت في المحطة قليلًا مترقبًا القطار الذي يقلني حتى المحطة التي أسكن فيها، وإذا بي أرى رجلًا يبلغ الخمسين يسيرًا وراءه طفل -ما شككت في أنه ولده- يحمل معه قدرًا مملوءًا بسائل لا أعرفه، وحاولا ركوب قطار كان قد غادر المحطة، وابتعد عنها قليلًا، وإذا بالولد يهوي على الأرض، والأب يهوي فوقه، ولحسن حظهما لم يصابا بسوء، ولكن القدر قد انكسر وسال ما فيه على الأرض، وكان لبنًا ناصع البياض، فنظر إليه الرجل نظرة ملؤها الأسف، وكادت الدموع تسيل من عينيه، ثم سار في طريقه مع ابنه، وكأنه تفاءل شرًّا مما حدث فعاد من حيث أتى، لم ألبث في طريقي قليلًا حتى رأيت طفلين من أطفال شوارع الإسكندرية يتسابقان لمكان الحادثة، وكانا لابسين من الملابس ما لا يحجب من جسديهما إلا القليل، عاريي الرأس، حافيي الأقدام، تتراكم على جبهتيهما وملابسهما القاذورات والأوساخ، تسابقا لمكان الحادثة، ولما وصلا إليه ركعا على الأرض ولبثا يلحسان اللبن، وكان لبنًا بالتراب لا بالقهوة.

بالله أترفض نفسي في هذا الصباح فنجان لبن بقهوة، وترضى نفسًا هذين الفقيرين لبنًا ممزوجًا بالتراب؟! "١.

وهكذا نرى أن أواخر هذه الفترة قد شهدت ميلاد القصة القصيرة كما شهدت ميلاد الرواية الفنية٢. وقد جاءت هذه، ثم تلك، على


١ ما تراه العيون "الطبعة الثانية سنة ١٩٢٧" ص١٢٧.
٢ كان ميلادها على يد الدكتور محمد حسين هيكل حين نشر سنة ١٩١٢.

<<  <   >  >>