كذلك ظهرت دعوة إلى عدم إجلال التراث العربي، أو التسليم بكل ما جاء منه، ووجوب إخضاعه للمنهج العلمي، وإن شوهه ذلك المنهج، وقد تمثلت تلك الدعوة في عملين أدبيين للدكتور طه حسين، هما "حديث الأربعاء" و"الشعر الجاهلي"، أما "حديث الأربعاء"، فقد نشره المؤلف أولًا على هيئة مقالات ظهر معظمها في السياسة ما بين سنتي ١٩٢٢ و١٩٢٤، ثم ظهر كتابًا سنة ١٩٢٥، وقد تناول طه حسين في هذا الكتاب -ضمن ما تناول- طائفة من الشعراء أصحاب الاتجاه المحدث، من أمثال أبي نواس، ومن سلك مسلكه، وبين كيف أن هؤلاء الشعراء يصورون عصرهم العباسي، عصر لهو ومجون وشك وزندقة، ووجه الأنظار إلى وجوب الاعتماد في صور أمثال تلك العصور العربية، لا على ما جاء في كتب التاريخ، وأخبار الخلفاء فحسب، بل على ما ورد في دواوين الشعر وكتب الأدب، وأخبار الشعراء والأدباء كذلك؛ حتى ولو أدى ذلك إلى تجريد عصر مما خلع عليه من جلال، أو حرمان خليفة مما وهبه التاريخ من تقدير١.
أما كتاب "في الشعر الجاهلي"، فقد ظهر سنة ١٩٢٦، بعد أن ألقى الدكتور طه حسين مادته محاضرات على طلبة كلية الآداب في السنة السابقة، وهذا الكتاب يشك في نسبة معظم الشعر الجاهلي إلى الشعراء الجاهليين، ويرى أنه من صنع شعراء إسلاميين، وضعوه بعد العصر الجاهلي لأغراض مختلفة، منها السياسي
والقبلي والديني، ثم نسبوه إلى الجاهليين، وهذا يخالف ما عليه التقاليد العربية من أن هذا الشعر من صنع شعراء جاهليين معينين، قالوه في الجاهلية، ورواه عنهم الرواة، وحفظ عن طريق الرواية التي حفظ بها التراث العربي الجاهلي كله، حتى دوِّن في عصر التدوين.
وإذا تأملنا تلك النظرة التي نظر بها الدكتور طه حسين إلى التاريخ العربي أولًا، وإلى الشعر الجاهلي ثانيًا، وجدنا أن وراءها شعورًا باستقلال الشخصية المصرية، يحمل على عدم الارتباط بالتاريخ والتراث العربيين، ارتباطًا يحمل