ثم نحن نجد الشاعر بعد هذه المبالغة في الذهنية، والتفلسف والابتعاد عن الموضوعات المعروفة إلى موضوعات هي أبعد ما تكون عن مجالات الشعراء؛ تجده يسير في اتجاه مضاد، أو على الأقل في اتجاه شديد البعد عن هذا الاتجاه. فهو نفس الديوان يعقد بابًا "للقوميات" يتحدث فيه عن "ذكرى الجهاد"، وعن "عيد بنك مصر"، كما يتحدث عن "ذكرى سيد درويش"، وعن نقل "جثمان سعد زغلول"، وعن "بعض المتطوعين في مشروع القرش"، وعن "بعض العهود السياسية"، وعن "دار العمال" ... ثم يعقد بابًا آخر "للمتفرقات" يورد فيه قصائد في تكريم أحد البشوات بمناسبة حفل قد أقامه أبناء أسوان لهذا الباشا، ثم يورد كذلك قصيدة في تهنئة عروسين، وأخرى في طبيب عيون، كما يورد في هذا الباب قصيدة في الملك غازي ملك العراق، وقد نظمها لتكون أغنية كما يقول الديوان، وفيها يقول على طريقة المحافظين:
غازي قلوب الشعب بالكرم ... والفضل والتوفيق والحسنى١
وهكذا نرى الاتجاه التجديدي الذهني قد انحسر في تلك الفترة، فهو بعد أن كان يندفع بقوة ثلاثة من الشعراء الرواد، الذين كانوا يجعلون الشعر فنهم الأول، أصبح يسير هادئًا بجهد شاعر واحد من هؤلاء الثلاثة، جعل من الشعر -في الغالب- مجالا للتعبير عن لحظات التوهج الذهني، وصرف جل طاقته إلى الكتابة السياسية والاجتماعية أولًا، والأدبية والإسلامية آخرًا، ثم هو بعد أن كان يأخذ نفسه بقيم شعرية صارمة، تباعد بينه وبين تقاليد الشعراء المحافظين، قد ترخص -بعض الشيء- في هذه القيم، حتى اقترب في بعض شعره من هؤلاء الشعراء، فمدح ورثى وهنأ وقرظ، وتورط في كثير من شعر المناسبات، التي كان يحارب التورط فيها هو وزميلاه من قبل.
ولكن برغم انحسار الاتجاه التجديدي الذهني في هذه الفترة، قد ظل يمثل -بنماذجه الجيدة- خطًّا مميزًا في مسيرة الشعر العربي الحديث، واستطاع ما تم على يد عملاقه العقاد، من نتاج شعري أولًا، ومن كتابات نقدية ثانيًا، أن يبقى -بعد رواده الأول- ممثلًا في نتاج نفر ممن تتلمذوا على العقاد وشعره، كمحمود عماد، وعبد الرحمن صدقي، وعلي أحمد باكثير. كما استطاع أن يسهم أعظم الإسهام فيما ظهر بعده من اتجاهات تجديدية أخرى، كان أهمها الاتجاه الذي هو موضوع الحديث التالي: