ويشرف على عالم الموت، "بعد أن يخدر الموت شكاته"، وتحمله "سفينة الذكريات" إلى هذه الرحلة العجيبة.
وهذه الرحلة قد اتخذت مجالها عالمًا آخر غير عالمنا، يشبه عالم المعري في "رسالة الغفران"، وعالم "دانتي" في "الكوميديا الإلهية"، وقد عرض الشاعر في هذا المجال أحداثًا خيالية، وجسم معاني تجريدية، تجري بينها تلك الأحداث، فهناك "بحر الوقت"، الذي يتسرب من فتحات في "هيكل الليالي"، وهناك "سفن الموت" التي تحمل كل شيء إلى "وادي العدم"، وهناك "مواكب الحياة"، التي تشرق أولًا بالبهة في "بحر الوقت"، ثم لا تلبث أن تتوارى في "هيكل الليالي"، وهناك بعد ذلك "إلهة الشعر" التي تعرض على الشاعر أن تصحبه إلى "الفردوس". وهناك "المغني" الذي يحاول أن يبعث لحنًا من قيثارته، فلا يخرج منها أي صوت.
والشاعر من خلال هذه الأحداث الخيالية، والمعاني المجسمة، يعبر عن حزن الإنسان وقلقه، وفزعه من نهايته المؤلمة التي تتجسم في الممات، كما يعبر -في الوقت نفسه- عن مأساته الخاصة، التي تتمثل في سوء الحظ في الحياة، وخيبة الأمل في الحب، وقسوة العيش في فقدان العزاء، لدرجة أن الشاعر لم يجد من يبثه شكواه في الدنيا، فراح يبحث عنه في الآخرة١.
فموضوع تلك القصيدة القصصية تجربة ذاتية؛ ولكن الشاعر استطاع أن يوسع أبعادها، فيجعل منها تجربة إنسانية، تعالج خوف البشر وقلقهم الدائم من المصير الحتمي المؤلم.
وقد صاغ الشاعر تلك التجربة في أسلوب شعري جيد، فيه الخيال الجنح، والعاطفة الجياشة، واللغة الجذابة، والموسيقى النابضة، وفيه -قبل ذلك- أهم خصائص هذا الاتجاه الابتداعي التي مضى عنها الحديث.
انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص١٧-١٨، وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص٥٦٥-٥٧٩، وانظر: الهمشري لصالح جودت ص٦٣-٦٤.