للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

" ... وأمري مع الكتب أغرب، كنت في أول عهدي بها -أي منذ عشرين سنة أو نحو ذلك- أذهب في أول كل شهر إلى واحد من باعتها، فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له، فيرفع رأسه إلى الرفوف، ويدور حول نفسه وهو في مكانه، ثم يلتفت إلي وعلى شفته -دون عينيه- ابتسامة جهل وغباء، ويهز لي رأسه أسفًا، فأنحيه عن الطريق وأمضي إلى الرفوف وأجيل عيني فيها، وآخذ منها ما يروقني، وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار! وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين، إن كان فوقهما شيء يستحق الذكر! ".

" ... وإني لأمر الآن بالمكاتب فأشيح بوجهي عنها وأغمض عيني دونها، ويردني الكتاب بكرهي فأتركه حيث يقع، وأهمله الأسابيع والشهور، وإذا فتحته اكتفيت بأن أعبره تزجية للوقت، ولم أبال من أي موضع بدأت، وسيان عندي أن أقرأه من أوله إلى آخره، أو من آخره إلى أوله، أو أن لا أقرأه، وقد تعاودني الحمى القديمة، ويتأوبني الحنين الماضي إلى الكتب، فأدافع نفسي عنها ما استطعت، فإن عجزت وغلبت على أمري، طاوعتها على حذر وسايرتها متحفزًا، وذهبت أتخير لها الكتب وأنتقيها، ومهما يكن من الأمر، فلست الآن ذلك الذي كان كأنما يعبد منها دمى وأصنامًا، ولقد غنمت أول فرصة سنحت فبعتها جملة، وتحريت بعد ذلك أن أزداد جهلًا! ".

"ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب! كما يقول المثل العامي، وللعادة حكم! لا يقوى المرء كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا على ما يريدها عليه من الخمود والتبلد، وقد يزعج المرء أن يرى نفسه يقضي أيامه بطين الجسد وحده، أو يموتها على الأصح؛ فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد لا ينقصها إلا الرمي، وما لا يصح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، وعسير على من تعنود أن يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد ويخلد إلى الركود، فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينًا بعد حين١".


١ انظر: قبض الريح للمازني ص٥ وما بعدها.

<<  <   >  >>