للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلم يفتح علي بتعليل يستريح إليه العقل ويأنس له القلب، وما أظن بي إلا أن الله جلت قدرته قد خلقني على طراز "عربات الرش"، التي تتخذها مصلحة التنظيم -خزان ضخم يمتلئ ليفرغ، ويفرغ ليمتلئ! وكذلك أنا فيما أرى؛ أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك! فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي، هذا الذي خلقه الله لي خلقة عربات الرش كما قلت! حتى إذا شعرت بالكظة وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء، وقمت عنه متثاقلًا متثائبًا من التخمة، فلا ينجيني إلا أن أفتح الثقوب وأسح! وهكذا دواليك!

"ولكم قلت لنفسي: أهذا الذي ركبه الله لك يا مازني بين كتفيك، رأس كرءوس الناس أم معدة أخرى؟؟ وأداة نظر وإدراك وتفكير هو أم مخزم يكتظ حينا ويخلو أحيانًا تبعًا لانتقال الأحوال بك؟ والحق أقول: إن الجواب يعييني؟ وإذا لم أكن قد ركبت من الوهم شر الحمير! فالناس في الأكثر والأعم إنما يعالجون الكتابة؛ لأن في رءوسهم فكرة أو خالجة، كائنة ما كانت، يبغون العبارة عنها والإفصاح بها، ولست أرى كذلك، ولقد يخيل إلي في بعض الأحايين أن في نفسي معنى معينًا، ويؤكد ذلك عندي ويقرر اعتقاديه، ما أحسه من جيشان الصدر واضطرابه، فأذهب ألتمس هذا المعنى أو الخاطر، فإذا به قد تبخر! وإذا بي كابني حين يجلس إلى جانبي ويحاول أن يقبض على الدخان الذي يتصاعد من سيجارتي، وأنا أضحك من هذا الذي يحاوله، وألهو به وأقول: إنه يجرب في عالم المحسوسات بعض ما أعانيه في عالم المعنويات!

" ... وأحيانًا أفعل هذا: أسأل نفسي "أفي رأسك شيء؟، وأعني بالشيء ماله قيمة، لا أي شيء على الإطلاق، فتساورني الشكوك، فأنقر بأصبعي على جوانب رأسي كمن يريد أن يتبين من الرنين مبلغ الخلو! وربما أسفت؛ لأني لا أستطيع أن أتناول رأسي هذا، وأن أقلبه بين كفي، وأن أفعل به ما يفعل المرء حين يختبر البطيخ!

<<  <   >  >>