للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويعطي وعودًا لا يوفي من بينها إلا بالنزر اليسير، وكل همه أن يدافع عن وضعه ووضع حكومته بالحق حينًا، وبالباطل في كثير من الأحايين، والثاني رجل معارضة، غايته أن يزحزح الحكومة القائمة، وهدفه أن يسقط الحزب الحاكم، وذلك لكي يثبت حزبه، وتتولى الحكم جماعة من فريقه، وكان ذلك كله يبعد بالخطابة السياسية كثيرًا عن دقة الصدق ونبل الهدف، ويدنيها أحيانًا من خداع البهرج وتضليل الشعوذة، ومن هنا كانت أهم أدواتها هي تلك الأدوات المتصلة بإثارة العواطف، وأبرز سماتها هي تلك السمات المرتبطة باللعب بالمشاعر، فكانت تعتمد قبل كل شيء على العبارة الرنانة، والحملة المنغومة واللفظة التي ترتبط بمعناها مشاعر الجماهير، كألفاظ الاستقلال والحرية، والدستور والديمقراطية، والبرلمان والشعب، والجهاد والاستشهاد، وما إلى ذلك.

هذا وقد كان أبرع الخطباء السياسيين في أوائل تلك الفترة، خطيبًا عرفناه في الفترة السابقة من أبرز خطباء الجمعية التشريعية، ثم أحد زعماء الثورة المصرية التي ختمت بها تلك الفترة، هذا الخطيب هو سعد زغلول، الذي وصل إلى الذروة في الخطابة السياسية -بالمفهوم الذي كانت تعنيه السياسة في ذلك الحين- فقد عرف بقدرة فائقة على التأثير وكسب المواقف عن طريق الكلمة الملقاة في الجموع١، وعرفت له وسائل فريدة في هذا الشأن، تشخص في جملتها أهم سمات الخطابة السياسية في ذلك الوقت، وقد اعتبر سعد لذلك النموذج لخطباء السياسة، حتى إن معظم الخطباء السياسيين بعده قد تأسوه، وبلغ ببعضهم الافتتان به أن قلدوه حتى فيما عيب عليه من خصائص لا تتفق والخطابة الممتازة، فقد كان سعد مثلًا يقطع الجمل إلى كلمات، أو تراكيب يقف على آخر كل منها بالحركة٢، فجاء بعض الخطباء


١ انظر: سعد زغلول لعباس العقاد ص٥٧٥ وما بعدها.
٢ يعلل العقاد ظاهرة التقطيع عند سعد بأنه كان لا يريد أن يفوه إلا بالكلمة المعنية دون سواها، كما يعلل ظاهرة الوقوف على أواخر الكلمات بالحركة، بأن سعدًا كان منذ صغره محبًا للامتياز كارهًا للرياء، فكان في وقوفه بالحركة مظهرًا -منذ صغره- لتمكنه من قواعد الإعراب، ومعبرًا عما في طبيعته من كره للرياء، الذي يلجأ إليه البعض حين يسكن ليسلم، ويستر الجهل ويرائي بالعلم.
انظر: سعد زغلول للعقاد ص٥٨٠، ٥٨٣.

<<  <   >  >>