للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب]

قلنا: إن فعل القرآن فى أنفس العرب كان على نوعين: فعله فى المشركين، وفعله فى المؤمنين، فالأول تأثير روعة بلاغته، ودهشة نظمه وأسلوبه، الجاذب لفهم دعوته والإيمان به إذ لا يخفى حسنها على أحد فهمهما، وكانوا يتفاوتون فى هذا النوع تفاوتا كبيرا لاختلاف درجاتهم فى بلاغة اللغة وفهم المعانى العالية.

فهذا التأثير هو الذى أنطق الوليد به المغيرة المخرومى بكلمته العالية فيه لأبى جهل التى اعترف فيها بأنه الحق الذى يعلو ولا يعلى، والذى يحكم ما تحته، وكانت كلمة فائضة من نور عقله وصميم وجدانه، وما استطاع أن يقول كلمة أخرى فى الصد عنه بعد إلحاح أبى جهل عليه باقتراحها إلا بتكليف لمكابرة عقله ووجدانه، وبعد أن فكر وقدر، ونظر وعبس وبسر، وأدبر واستكبر، كما تقدم.

وهذا التأثير هو الذى كان يجذب رءوس أولئك الجاحدين المعاندين ليلا لاستماع تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بيته، على ما كان من نهيهم عنه ونأيهم عنه، وتواصيهم وتقاسمهم لا يسمعن له، ثم كانوا يتسللون فرادى مستخفين، ويتلاقون فى الطريق متلاومين «١».

وهذا التأثير للقرآن هو الذى حملهم على منع أبى بكر الصديق رضى الله عنه من الصلاة والتلاوة فى المسجد الحرام، لما كان لتلاوته وبكائه فى الصلاة من التأثير الجاذب إلى الإسلام، وعللوا ذلك بأنه يفتن عليهم نساءهم وأولادهم، فاتخذ مسجدا له بفناء داره فطفق النساء والأولاد الناشئون ينسلون من كل حدب إلى بيته ليلا لاستماع القرآن.


(١) همّ أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق، كان كل واحد يأتى من ناحية فيستمع إلى قراءته صلّى الله عليه وسلم من حيث لا يراه الآخران؛ فإذا تلاقوا بعد الانصراف تلاوموا وتواعدوا ألا يعودوا لئلا يعلم بهم غيرهم فيقتدوا بهم. وفى الثالثة تعاهدوا ألا يعودوا، فلما أصبحوا ذهب الأخنس فأتى أبا سفيان فى بيته فقال:
أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة؛ والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها (يعنى أنه لا ينكرها) فقال الأخنس: وأنا والذى حلفت به، ثم ذهب الأخنس إلى أبى جهل فى بيته فسأله عما سأل عنه أبا سفيان فقال أبو جهل: ماذا سمعت؟ تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا (يعنى الحمل على الإبل والدواب) وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسى رهان، قالوا منا نبى يأتيه الوحى من السماء فمتى تدرك هذه؟ والله لا نسمع له ولا نصدقه .. رواه البيهقى فى دلائل النبوة. وهذا إقرار من أبى جهل بأن الوحى غاية لا يمكن إدراكها لأنه معجز للبشر.

<<  <   >  >>