للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات]

التنازع بين الأحياء فى مرافق المعيشة ووسائل المال والجاه غريزة من غرائز الحياة، وإفضاء التنازع إلى التعادى بين الجماعات والأقوام سنّة من سنن الاجتماع، أو ضرورة من ضروراته قد تكون وسيلة من وسائل العمران، فإن كان التنازع بين الحق والباطل كان الفلج للحق، وإن كان بين العلم والجهل كان الظفر للعلم، وإن كان بين النظام والاختلال كان النصر للنظام، وإن كان بين الصلاح والفساد كان الغلب للصلاح، كما قال الله تعالى فى الحق والباطل: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: ١٨] وقال الله تعالى فى بيان نتيجة المثل الذى ضربه لهما: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «١» [الرعد: ١٧] وسبق ذكر هذه الآية كلها.

وأما التنازع والتعادى والتقاتل على الشهوات الباطلة، والسلطة الظالمة، واستعباد القوى للضعيف، والاستكبار والعلو فى الأرض، فإن ضرره كبير، وشره مستطير، يزيد ضراوة البشر بسفك الدماء، حتى خيف أن تقضى على هذا العمران العظيم فى وقت قصير، بما استحدثه العلم الواسع من وسائل التخريب والتدمير، كالغازات السامة ومواد الهدم والتحريق تقذفها الطيارات المحلقة فى جو السماء، على المدائن المكتظة بالألوف من الرجال والنساء والأطفال، فتقتلهم فى ساعة واحدة أو ساعات معدودة.

وقد حارت الدول الحربيّة فى تلافى هذا الخطر حتى إنّ أشدّهنّ استعدادا للحرب بالأساطيل الهوائية والبحرية وآلات التدمير وكثرة الأموال لأشدهن خوفا على حياة أمتها المستعدة بجميع أنواع القتال، وعمران بلادها المحصنة بأحدث وسائل الوقاية، وترى دهاقين السياسة فى كل منها يتفاوضون مع أقرانهم لوضع نظام لتقرير السلام، ودرء مفاسد الخصام، بمعاهدات يعقدونها، وأيمان يتقاسمونها، ثم ينكثون خائبين، أو ينقضون ما ابرموا متأولين، ويعودون إلى مثله مخادعين.


(١) الزَّبَدُ بالتحريك ما يكون فى أعلى السيل أو القدر التى تفور من الغثاء والرغوة، و (الجفاء) بالضم ما يقذفه الوادى أو القدر من جوانبهما عند امتلائهما من ذلك وهو ما لا نفع فيه، وأما إبليز السيل الذى يرسب، ومنه إبريز الصائغ من الذهب الذى توقد النار عليه لتصفيته وهو النافع للناس فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ويبقى فى بوط الصائغ (بوتقته).

<<  <   >  >>