للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من الكفار، ولو كانت مما يقدر عليه البشر بكسبهم، أو تقع منهم باستعداد روحى فيهم، لما كانت آية على صدقهم.

(الثالثة): هداية عقول البشر برؤيتها إلى سعة دائرة الممكنات، وضيق نطاق المحال فى المعقولات، وإلى أن كون الشيء بعيدا عن الأسباب المعتادة والأمور المعهودة والسنن المعروفة، لا يقتضى أن يكون محالا يجزم العقل بعدم وقوعه، وبكذب المخبر به ولو مع قيام الدليل على صدقه، وإنما غايته أن يكون الأصل فيه عدم الثبوت فيتوقف ثبوته على الدليل الصحيح، وهذه قاعدة كبار علماء الكون فى هذا العصر، فلا ينقصهم لتكميل علمهم إلا ثبوت آية الله تعالى لا يمكن أن يكون لها علة من سنن الكون وسبب من أسبابه المطردة، والماديون المنكرون لآيات الرسل لن يجدوا هذه الآية فى عالم المادة وإنما يجدونها فى القرآن.

ذلك بأنّ كلّ ما فى عالم المادة فهو خاضع لما يسمى فى عرفهم بالأسباب والنواميس والعلل، وفى لغة القرآن بالسنن والقدر (كما قرأنا عليك آنفا)، ولذلك تجدهم

يبحثون بالتحليلات المادية عن الموجود الأول فى الأزل، وما كان يبحث عنه الفلاسفة المتقدمون بالدلائل العقلية ويسمّونه علّة العلل، وإنما الموجود الأول هو الله تعالى واجب الوجود الذى صدر عنه كلّ ما عداه من الموجودات، وهم لما يعرفوا أول ما صدر عنه بمحض قدرته ومشيئته المعبر عنها عندنا بكلمة التكوين، وهى قوله تعالى للشيء (كن فيكون) وهذا غيب الغيوب، ومنهم من يرى أن العلم به متعذر ومنهم من يطلبه ويرجوه.

ولكن الأمر قد انقلب عندهم إلى ضده فإن كثيرا من الذين وصلوا إلى هذه العلوم والأعمال المقربة لآيات الرسل، وما دعوا إليه من الإيمان بالغيب من العقول، قد صارت هذه العلوم نفسها سببا لإنكارها ما كان سببا لها وموصلا إليها (وهو الآيات والإيمان بالغيب) لا إنكار إمكانه فى العقل. بل إنكار ثبوته بالفعل، فهم ينكرون أن يكون الخالق قد فعل ما صاروا يفعلون نظيرا له فى الغرابة، وكان ينبغى لهم أن يجعلوه دليلا عليه مبينا لحقيته كما قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣]، ولكنهم كلما أراهم آية من آياته الروحية فى أنفسهم أو من آياته الكونية فى الآفاق التمسوا لها سنة أو فرضوها فرضا بقياس ما لم يعرفوا على ما عرفوا، فأخرجوها عن كونها بمحض قدرته وإبداعه، وظلوا على لبسهم كالذين طلبوا من محمّد صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم ملكا رسولا فقال الله فيهم: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ

<<  <   >  >>