للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا أصل دين الفطرة الغريزى فى البشر، لا ما زعمه بعض الكتاب المعاصرين من أن دين الفطرة فى الآية الكريمة أن يعمل الإنسان متبعا شعوره وأفكاره ووجدانه بمقتضى طبيعته دون تلقى شىء من غيره، فهذا جهل، لا يقره دين ولا عقل، وفوضى لا يستقيم معها أمر، فإنّ الإنسان يجنى على فطرته وغرائزها وقواها بجهله وسوء اجتهاده، فشعوره الفطرى الذى بيّناه هو الذى ولد له العقائد الوثنية بعبادته كل ذى تأثير لا يعرف له سببا، لحسبانه أنه هو صاحب السلطان الغيبى القادر على نفعه وضره، ومن ثمّ كان محتاجا إلى تكميل فطرته بالوحى الإلهى.

وعلى هذا الأصل بنى الدين التعليمى التشريعى الذى هو وضع إلهى يوحيه الله إلى رسله لئلا يضل عباده بضعف اجتهادهم واختلافهم فى العمل بمقتضى غريزة الدين كما وقع بالفعل، ولا يقبل البشر هذا الدين التعليمى بالإذعان والوازع النفسى إلا إذا كان الملقن لهم إياه مؤيدا فى تبليغه وتعليمه من صاحب ذلك السلطان الغيبى الأعلى، والتصرف المطلق فى جميع العالم، الذى تخضع له الأسباب والسنن فيه وهو لا يخضع لها، سواء كان له هذا التصرف لذاته وهو رب العالمين، أو كانت له بولايته له تعالى ونيابته عنه. وقد شرحنا هذه الحقيقة آنفا مختصرا مما بيناه فى مواضع مع التفسير والمنار فى معنى كون الإسلام دين الفطرة، وأنه شرع لتكميل استعداد البشر للرقى فى العلم والحكمة، ومعرفة الله عزّ وجلّ المعدة إياهم لسعادة الآخرة، فليس فيه شىء يصادمها.

فهذا الدين التعليمى حاجة من حاجات الفطرة البشرية لا يتم كمالها النوعى بدونه، فهو لنوع الإنسان كالعقل لأفراده كما حققه شيخنا الأستاذ الإمام.

قد كان دين الله الذى بعث به جميع رسله لجميع الأمم مصلحا لما أفسدته الوثنية من فطرتهم بجهلهم ثم بتقليد بعضهم لبعض، على أنهم كانوا إذا طال الأمد على بعثة الرسل يضلون عن هدايتهم إلى أن أتم الله الدين وأكمله للبشر كما تقدم بيانه فى المقصدين، الأول والثانى من مقاصد القرآن. وفى حديث الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». يعنى أنهما يفسدان فطرته الاستعدادية بتلقينه دينا محرفا منسوخا بدلا من إكمالها.

وكان من فضل الله على عباده بعد إكماله دينه أن ضمن لهم حفظ كتابه هذا من التحريف والتبديل والنسيان والزيادة والنقصان، فقال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩]، وعصم أمة خاتم النبيين أن تضلّ كلّها عنه، كما ضلت الأمم

<<  <   >  >>